من صور أذية المؤمنين الحمد لله الذي وفّق من شاء من عباده لمكارم الأخلاق، وهداهم لما
فيه فلاحهم وسعادتهم في الدنيا ويوم التلاق، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك
له الملِك الكريم الخلاق، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق،
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً. أما بعد: أيها
المسلمون: عباد
الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الإخوة الإيمانية من أعظم الحقوق بين
المسلمين، فقد وضحها الله في كتابه فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ}، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، بل الله عَزَّ وَجَلَّ قد نَزَّل أخاك المسلم
منزلةَ نفسِكَ فقال الله عَزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} أي:
إخوانكم؟! أيها
الناس إن بعض المسلمين -هَداهُمُ اللَّهُ- أخذ يفرط في هذه الحقوق، بل زاد على ذلك
إثمًا مبينًا؛ وهو إلحاق الضرر بإخوانه المسلمين بأي نوع من أنواع الضرر.. أفَمَا
علِم هذا وأمثالُه أن حرمة المؤمنين عند الله عَزَّ وَجَلَّ عظيمة؟! رأى ابن عمر
رضي الله عنهما الكعبةَ فقال: (ما أعظمَكِ! وأعظمَ حُرْمَتَكِ! ولَلمؤمنُ أعظمُ
عندَ اللَّهِ حرمةً منك).. ولهذه
الحرمة فإن الله عَزَّ وَجَلَّ توعد المؤذي بوعيد ثقيل وتهديد عظيم , قال عَزَّ
وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، حملوا على
ظهورهم البهتان وهو الكذب الكبير، وحملوا على ظهورهم الإثم المبين أي: البيِّن
الواضح الذي لا عُذْرَ للمرءِ في اقتِرافِهِ؛ فهؤلاء ضيَّعوا حقوق الله عَزَّ
وَجَلَّ في حفظ الأخوة الإيمانية، وانتَهَكُوا حرماتِ الله عَزَّ وَجَلَّ في
إلحاقِ الضَّرَرِ بإخوانِهم المسلمين، والنبيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ
يقول: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) ، فإذا لم يكن للمسلم منك خيرٌ فلا أقل من أن
تَكُفَّ أذاك عنه.. ألا
وإن صور أذية المؤمنين تنتشر وتكثر وتفشو شيئًا فشيئًا لا سيما عبر شبكات الانترنت
وأجهزة الاتصالات الحديثة؛ ففي كل يوم تُخْرِجُ لَنا الأيامُ صورةً مِن صُوَرِ أذِيَّةِ
المؤمنينَ تَقَعُ على أيدي بعضِ مَن ينتسب إلى الإيمان والدين. فمن
أعظم ذلك ضررًا: أذية المؤمن باتِّهامه وإلحاقِ ما يَشينه أمام الناس بالباطل
والزور؛ يقول الني صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله
وعرضه)، وثبت عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: (أيما امرئ أشاع على امرئٍ
مسلمٍ كلمةً وهو منها بريءٌ ليَشينه بها؛ كان حقًّا على الله عَزَّ وَجَلَّ أن
يُعَذِّبَهُ بها في نارِ جَهَنَّمَ حتى يأتيَ بنفاذِ ما قال) حتى يحقق ما قال فيه،
ولن يتحقق أبداً، كيف وهو كذب؟! رواه أبو الشيخ بإسناد صحيح.. فكثرة
الوقوع في أعراض المسلمين، لا سيما مَنْ كان مِن العلماء منهم، أو مِن طلبة العلم
بالافتراء والكذب عليهم، وإلصاق التهم الباطلة بهم، هو مما ينافي حقوق الأخوة التي
ثبتت بقطعيَّات الشريعة الإسلامية، وهو انتهاكٌ صَرِيحٌ لِحُدُودِ الله
وحُرُمَاتِهِ تبارك وتعالى؛ فالتَّساهُلُ في هذا الأمر جريمةٌ لا تُغْتَفَرُ حتى
يتوبَ منها المؤمن ويرجِعَ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , ولا بد أيضاً أن
يتحلل منه ففي الحديث (من كانت له مظلمةٌ لأحدٍ من عرضِه أو شيءٍ فليتحلَّلْه منه
اليومَ) رواه البخاري . ويستوي
في ذلك مَن نطق بكلمة الإثم ومَن نقلها ونشرها مِن غير تَثَبُّتٍ؛ كما قال أمير
المؤمنين علي رضي الله عنه كما رواه أبو الشيخ عنه بإسناد صحيح: (القائلُ كلمةَ
الزُّورِ والذي يَمُدُّ بِحَبْلِهَا : في الإثمِ سواء). ومن
صور أذية المؤمنين: ما يقع من بعضهم من السخرية بذكر عيوب الناس والتتبع لعوراتهم
ونشرها بين الناس؛أو الطُرَف -وهو التي تسمى النكت- التي تنشر عن جنسية معينة، أو
قبيلة معينة، أو بشرة لونها كذا وكذا، فذلك كله من الجرائم الكبيرة التي حذر النبي
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ منها بقوله: (ويلٌ للَّذي يحدِّثُ فيَكذِبُ
ليُضحِكَ بِه القومَ ، ويلٌ لَه ، ثُمَّ ويلٌ لَه) حسنه جمع من العلماء، وجاء فعلُ
السلف مجانبًا لها محذِّرًا منها؛ فقد قال بعض الصحابة رضي الله عنه: "كنا
نُحَدَّثُ أَنَّ أكثرَ الناسِ خطايا أفْرَغُهُم لذِكْرِ عُيُوبِ النّاسِ".. نعم،
إن أولئك الذين يَتَفَرَّغُون لذِكْرِ عيوبٍ لإخوانهم المسلمين؛ فلا هَمَّ لهم سوى
الوقيعة في أعراضهم، وتَصَيُّدِ أخطائهم أولئك قد مكر الله عَزَّ وَجَلَّ بهم؛
فأشغلهم بِعُيُوبِ النّاسِ عن عُيُوبِ أنفُسِهِم، وذلك عُنوان غضب الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم؛ كما قال بكر بن عبد الله الْمُزَنِيّ: "إذا
رأيتَ الرَّجُلَ مُوَكَّلاً بِعُيُوبِ النّاسِ ناسِيًا لِعَيْبِ نَفْسِهِ : فاعلمْ
أنّه قد مُكِرَ بهِ"، وإذا مَكَر الله عَزَّ وَجَلَّ به فإنه سوف يَهِيم في
أودية الضلال، وسوف يتفرد به الشيطان ، فيُرْدِيه في مَهاوي الرَّدَى.. فيا
أيها المسلمون، اتقوا الله عَزَّ وَجَلَّ في أخوَّة الدين، واعلموا أنها من أعظم
نِعَمِ الله عَزَّ وَجَلَّ عليكم. اللَّهُمَّ ربنا ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل
السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه
هو الغفور الرّحيم. الخطبة
الثانية الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى؛ وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: من
أخطر الأذية لعباد الله المؤمنين وأخطرها وأشدها فتكًا لحسنات الإنسان الغيبة في
الآخَرين، قال الله -جل وعلا-: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الْحُجُرَاتِ:
12]، مرَّ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- على بغل ميِّت فقال لبعض أصحابه:
"لأَنْ يأكل الرجلُ من هذا حتى يملأ بطنَه خيرٌ له من أن يأكل لحمَ رجلٍ
مسلمٍ". الغيبة
هي ذِكرُك أخاكَ بما يكره، في جميع شؤونه، من بدن أو دِين أو دُنيا، قال صلى الله
عليه وسلم: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: ذِكرُكَ
أخاكَ بما يكره". وإن
من أعظم الأذية بالمؤمنين النميمة.. النميمة التي هي نقل الكلام بين الطرفين بغرض
الإفساد؛ هي عادة ذميمة وعمل لئيم، وجريمة أخلاقية منكرة لا يحسنها إلا الضعفاء
والجبناء، ولا يتقبلها إلا الأراذل والتافهون؛ ولهذا تضافرت نصوص الوحيين على
تحريمها والتحذير منها..(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ
مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) [القلم:10-11]، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول:"لا
يدخلُ الجنةَ نمَّامٌ" متفق عليه، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين، فقال: "إنهما لَيُعذَّبان، وما
يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي
بالنميمة" متفق عليه. فاللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء يا سميع
الدعاء، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها
. اللهم إنَّا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا
تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . اللهم أصلح ذات بيننا ، وألِّف بين قلوبنا واهدنا سبل
السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا
وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ارحم المستضعفين
من المسلمين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين،
اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب
العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين
خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم
بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا وأراد ديننا
وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه
يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |