إنَّ الدُّنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وإِنَّ مُسْتَخْلِفْنَا فِيها
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناسُ:
اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، واعْلَمُوا أنَّ اللهَ جَعَلَ الدُّنيا دارَ ابْتِلاءٍ،
فَخَلَقَنَا وَخَلَقَ الْمَوْتَ والحَياةَ، وَجَعَلَ جَمِيعَ مَا عَلَى الأَرْضِ
مِنْ مَآكِلَ طَيِّبَةٍ وَمَشارِبَ، وَمَلَابِسَ فاخِرَةٍ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةٍ،
وَأَشْجارٍ وأَنْهارٍ، وَنِساءٍ وَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَغَيْرِ ذلكَ مِنْ زَهْرَةِ
الدنيا. جَعَلَ ذلكَ زِينَةً لَها، لِيَبْلُوَنَا أَيُّنَا أَحْسَنُ عَمَلًا.
وأَمَّا جَمِيعُ الْمَذْكُوراتِ مِن زِينَةِ الدُّنيا، فَإنَّ مَصِيرَها إلى
الفَناءِ والاِضْمِحْلَالِ والزَّوالِ.
وأَخْبَرَنَا
النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ،
ثُمَّ بَيَّنَ الحَكْمَةَ مِنْ ذلكَ، ألَا وَهُوَ الاِبْتِلاءُ والاخْتِبارُ، كَيْ
لا نَرْكَنَ إلَيْها فَقال: ( إِنَّ الدُّنيا
حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيها، لِيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ، فاتَّقُوا الدُّنْيا، واتَّقُوا النَّساءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ
بَنِي إسْرائِيلَ كانت في النِّساءِ ).
فَأَخْبَرَ
أَنَّ الدُّنيا حُلْوَةُ الطَّعْمِ والْمَذاقِ، وَخَضِرَةٌ - أيْ جَمِيلَةُ - الْمَنْظَرِ
والْمَظْهَرِ، وَلِذلكَ تَفْتَتِنُ بِها العَيْنُ وَتَهْواها النُّفُوسُ،
وتَتَسابَقُ إلَيْها، وَتَنافَسُ عَلَيْها، وَتُؤْثِرُها عَلَى الآخِرَةِ، إلَّا
مَنْ رَحِمَ اللهُ.
ثُمَّ
أَخْبَرَ أَنَّ اللهُ مُسْتَخْلِفُنا فِيها، أَيْ جَعَلَنا خُلَفاءَ
القُرُونِ التي سَبَقَتْنَا، وَجَعَلَنَا خَلائِفَ، يَخْلُفُ بَعْضُنا بَعْضًا،
كُلَّمَا ذَهَبَ جِيلٌ، خَلَفَهُ جِيلٌ بَعْدَه. لِيَخْتَبِرَ العِبادَ،
وَلِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَتْقَى للهِ وأَحْسَنُ عَمَلًا. وَلِيَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أحْسَنُ حالًا مَعَ اللهِ، ومَعَ خَلْقِ اللهِ. وَلِذلكَ قال: ( فاتَّقُوا الدُّنْيا )، أيْ احْذَرُوا فِتْنَتَها، وَلا
تَرْكَنُوا إلَيْها، فَإِنَّ ما تَرَوْنَهُ مِنْ زِينَةٍ وَفِتْنَةٍ، إِنَّما هُوَ
ابْتِلاءٌ واخْتِبارٌ، فَلَا تُؤْثِرُوها عَلَى الآخِرَةِ. لِأَنَّ إِيثارَها على الآخرةِ، مَفاسِدُهُ كثيرةٌ وخطيرةٌ:
أَوَّلُها: الغَفْلَةُ
عَنْ الأَمْرِ الذي خَلَقَنا الله مِنْ أَجْلِهِ، أَلا وَهُوَ عِبادَةُ اللهِ
وَحْدَه، وَتْرْكُ عِبادَةِ ما سِواهُ.
والثَّانِي:
فَسادُ النِّيَّةِ، فإنَّ الانغِماسَ في الدُّنيا
عَدُوٌّ لَدُودٌ للنِّيَّةِ والسَيْطَرَةِ عليها. وقد أخبرَ النبيُّ صلى
الله عليه وسلم أنّ أولَ مَن تُسَجَّرُ بهم النارُ ثلاثة: رَجُلٌ تَعَلَّمَ
لِيُقالَ عالِم، وَقَرَأَ القرآنَ لِيُقالَ قارِئ. ورجلٌ قاتَلَ لِيُقالَ جَريءٌ.
ورجلٌ أنفقَ وَبَذَلَ لِيُقالَ جَوادٌ وَكَريمٌ.
الثَّالِثُ
مِن مَفاسِدِ إِيثارِ الدُّنيا على الآخِرَةِ: تضيِيعُ جانِبِ الأُخُوَّةِ الإيمانِيِّةِ، التي هي الرابطُ الأعظَمُ
بَيْنَ الْمُؤمِنين، فإن التعَلُّقَ بالدُّنيا والتنافُسَ عَلَيْها، سَبَبٌ
للتحاسُدِ والبَغْضاءِ والعَداوَاتِ والقَطِيعَةِ.
الرابِعُ
مِن مَفاسِد إِيثارِ الدُّنيا على الآخِرَةِ: تَشَتُّتُ
قَلْبِ العَبْدِ، والخَوْفُ عَلَى الْمُستَقْبَلِ، والشُّعُورُ بِمُلاحَقةِ
الفَقْرِ، حَتَّى لَوْ كانَ الشَّخْصُ مِنْ أَغْنَى الناسِ، يَقُولُ
النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ كانت الدنيا
هَمَّه، فرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَه، وجَعَلَ فَقْرَه بَيْنَ عَيْنَيْه، وَلَمْ
يَأْتِهِ مِنْ الدنيا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ. وَمَنْ كانَتْ الآخِرَةُ نِيّتَه،
جَمَعَ اللهُ لَه أَمْرَه، وجَعَل غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدنيا راغِمَة
).
الخامِسُ
مِنْ مَفاسِدِ إِيثارِ الدُّنيا على الآخِرَةِ: تَقْديمُ التَّنازُلَاتِ مِنْ أجْلِ الدنيا، خَوفًا مِنْ
فَواتِ الفُرَصِ أَوْ نُقْصانِ مَتاعِ الدنيا، كَمَنْ يَبِيعُ أَمَانَتَهُ مِنْ
أجْلِ الرَّشْوَةِ، أَوْ يَبيعُ عَقْلَهُ مِنْ أجْلِ الخَمْرِ والْمُخَدِّراتِ،
أَوْ يَبيعُ عِرْضَهُ وَشَرَفَهُ مِن أجْلِ كَسْبِ الْمالِ، بَلْ وأَخْطَرُ مِنْ
ذلك أَنْ يَبِيعَ دِينَه كُلَّه مِن أجْلِ الدُّنيا.
السادِسُ
مِن مَفاسِد إِيثارِ الدُّنيا: تَدَاعِي
أُمَمِ الكُفْرِ وَتَسَلُّطُها عَلَى الْمُسْلِمين، فَإِنَّ الانْشِغالَ بِها عَنْ
القُرْآنِ والسُّنَّةِ ونُصْرَةِ دِينِ اللهِ، مِن أعْظَمِ هَوانِ الْمُسْلِمين
عَلَى أعدائِهِمْ، وَذُلِّهِمْ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( يوشِكُ الأُمَمُ أن تَدَاعَى عليكُم، كما تَداعى الأَكَلَةُ
إلى قَصْعَتِها، فقال قائِلٌ: ومِنَّ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: لا، بَلْ
أنتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، ولكِنَّكُم غُثاءٌ كَغُثاءِ السَّيْلِ، ولَيَنْزِعَنَّ
اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُم الْمَهابَةَ مِنْكُم، ولَيَقْذِفَنَّ اللهُ في
قُلُوبِكُم الوَهْنَ. فقال قائِلٌ: يا رسولَ الله، وما الوَهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا
وكَراهِيَةُ الْمَوْت ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ:
عِبادَ اللهِ: لَقَدْ خَتَمَ النبيُّ صلى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الحَدِيثَ بِاتِّقاءِ
فِتْنَةِ النِّساءِ والحَذَرِ مِنْها، والتي قَدْ تَكُونُ:
بِإِغْراءِ الرِّجالِ، بِسَبَبِ تَساهُلِ بَعْضِهِنَّ في أَمْرِ اللِّباسِ
الفاتِنِ، وَالسُفُورِ، وما يَتْبَعُه مِنْ ألْبِسَةٍ تَخْدِشُ الحياءَ، وتَنْزِعُ
الشِّعارَ الظاهِرَ لِلمَرأةِ الْمُسلِمةِ. وَكّذلكَ
الخَلْوَةُ مَعَ غَيْرِ الْمَحارِمِ، وَالتَوَسُّعُ في الحَدِيثِ مَعَهُمْ. وَتَكُونُ فِتْنَتُهُنَّ: بِتَرْكِ الحَبْلِ
عَلى الغارِبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، وَعَدَمِ رِعايَتِها وَصِيانَتِها
وحِمايَتِها مِنْ نَفْسِها ومِنْ مَرْضَى القُلُوبِ، لِأَنَّ النبيَّ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم قال: ( الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذا
خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَها الشَّيْطانُ )، أي زَيَّنَها الشيطانُ لِلرِّجالِ، وَزَيَّنَ
لَها حُبَّها للتَجَمُّلِ عِنْدَ خُرُوجِها.
وَقَدْ ذَكَرَ النبيُّ صلى اللهُ عَلَيهِ
وسلمَ فِتْنَةَ النِّساءِ، بَعْدَ فِتْنَةِ الدُّنْيا، مِنْ بابِ عَطْفِ الخاصِّ
عَلى العامِّ، لِزِيادَةِ التَّحْذِيرِ، وَتَأْكِيدًا عَلَى أَنَّ الفِتْنَةَ
بِهِنَّ مِنْ أَعْظَمِ فِتَنِ الدنيا.
اللَّهُمَّ
إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيا، وَمِنْ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها
وَمَا بَطَنَ، وَثَبِّتْنا بِالقَوْلِ الثابِتِ في الحَياةِ الدنيا وفي الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ
مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ
خَيْرَ أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ
أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا
مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ،
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ
البَلاءَ عَن الْمُستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ
دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ
والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ
عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم،
اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ
احفظْ بَلادَنا مِن كَيدِ الكَائدِينَ وعُدْوانِ الْمُعْتَدِينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ
وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصَارِ
دِينِك، وَارْزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ،
اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ،
الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ.
اللَّهمَّ أنتَ اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا أنتَ الغَنيُّ ونحنُ
الفقراءُ أنزِلْ علينا الغَيْثَ واجعلْ ما أَنزلتَ لَنا قُوَّةً وبَلاغًا إِلى حِينٍ،
اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا طَبَقَاً سَحَّاً
مُجَلِّلاً ، عَامَّاً نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجَلاً غَيْرَ آجِلٍ، اللَّهُمَّ
أَنزلْ عَليْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكَـاً تُـحْيِي بِهِ الْبِلَادَ،
وَتُغِيثُ بِهِ الْعِبَادُ، وتَـجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ وَالْبَادِ،
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهمَّ لا
تَرُدَنا خَائِبِين.
اللهُمَّ صَلِّ وَسَلّمْ عَلَى نَبِيِّـنَا مُحَمَّد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119