اللُّحْمَةُ
الوَطَنِيَّةُ وَاجْتِماعِ الكَلِمَةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالى،
واحْمَدُوهُ واشْكُرُوه عَلَى أَنْ هَداكُمْ لِلإسْلامِ، وَمَنَّ عَلَيْكُمْ
بِنِعْمَةِ التَّوْحِيدِ والسُّنَّةِ، وَجَعَلَكُمْ تَعِيشُونَ عَلَى ذلك آمِنِينَ
مُطْمَئِنِّينَ، يَأْتِي إلَيْكُمْ رِزْقُ اللهِ بِجَمِيعِ أَنْواعِهِ وأصْنافِهِ،
مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، في بِلادِ الإسلامِ وَبِلادِ التَّوْحِيدِ والسُّنَّةِ – هذِهِ
البِلادِ الْمُبَارَكَةِ – التي نَسألُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَها، وَيَحْفَظَ لَها
دِينَها وأَمْنَها، وأَنْ يَحْفَظَ وُلاتَها وَعُلَماءَها وأَهْلَها، وأنْ
يَجْمَعَ كَلِمَتَهُم وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.
فإِنَّ هذه نِعَمٌ مُتَتابِعَةٌ،
نَتَقَلَّبُ فِيها، نَسْألُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنا شُكْرَها، فَإِنَّه بِالشُّكْرِ
تَزِيدُ النِّعَمُ.
أيُّها الْمُسْلِمُون:
إِنَّ مِن الأُمُورِ التي فُطِرَ وَجُبِلَ عَلَيْها الإِنْسانُ، حُبَّهُ
لِوَطَنِهِ والأَرْضِ التي وُلِدَ وَنَشَأَ وَعاشَ فِيها.
وَهذا
الحُبُّ والاِنْتِماءُ: هُوَ سَبَبُ عِمَارَتِها، والسَّعْيِ في
إِصْلاحِها، وحِمَايَتِها والدِّفاعِ عَنْها، والغَيْرَةِ عَلَيْها.
وهذه
الحُبُّ أَيْضًا: يَسْتَلْزِمُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحِبَّ الخَيْرَ
والرِّفْعَةَ والأَمْنَ لِوُلاتِها وأَهْلِها، وأَنْ يُساهِمَ في رِعايَةِ
مَصالِحِها، كَمَا يَرْعَى مَصالِحَه.
وأَنْ
يَحْذَرَ مِن الخِيانَةِ لِبَلَدِهِ، وُوُلَاتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ، وإِلّا كانَتْ
هذهِ الْمَحَبَّةُ كاذِبَةً، ظاهِرُها الخَيْرُ، وَباطِنُها الغَدْرُ والخِيانَةُ.
وَإِذا كانَ
الناسُ مَجْبُولِينَ عَلَى ذلك مَعَ أَوْطانِهِمْ، فَكَيْفَ إِذا كانَ
هذا الوَطَنُ يَضُمُّ الحَرَمَيْنِ، أَفْضَلَ بَلَدَيْنِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.
وَيَحْكُمُ هذا الوَطَنَ وُلاةٌ نَصَرُوا التَّوْحِيدَ والسُّنَّةَ، وَحَكَّمُوا
الشَّرِيعَةَ، وَأَعْلَنُوا ذلكَ عَلى الْمَلَإِ، وَأَهْلُهُ تَرَبَّوْ عَلَى
التوحِيدِ، وعاشُوا عَلَيْهِ، وَتَمَيَّزُوا بِهِ.
عِبادَ اللهِ:
بِالتَّقْوَى يَصْلُحُ أَمْرُ دِينِنا. وَبِالسَّمْعِ والطاعَةِ لِوُلاةِ الأَمْرِ يَصْلُحُ
أَمْرُ دُنْيانَا.
هذا ما دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ
الشَّرِيعَةِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ
العِرْباضِ بْنِ سارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: ( وَعَظَنَا
رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْها
العُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْها القُلُوبُ، فَقالَ قائِلٌ: يا رسُولَ اللهِ،
كَأَنَها مَوْعِظَةٌ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنا ).
فَنُلاحِظُ
يا عِبادَ اللهِ في أَوَّلِ هذا الحديثِ، أَنَّ هذه الْمَوْعِظَةَ
تَخْتَلِفُ عَنْ الْمَوَاعِظِ التي عَهِدُوها، وَكُلُّ مَواعِظِ النبيِّ صلى الله
عليه وسلم بَلِيغَةٌ ومُؤَثِّرَةٌ، وَلكِنَّ هذه الْمَوْعِظَةَ لَيْسَتْ كالْمَواعِظِ
السَّابِقَةِ، وَلِذلك قالُوا: كأَنَّها مَوْعِظَةٌ مُوَدِّعٍ فأَوْصِنا.!
وَهذا يَجعَلُنَا وَيَجْعَلُ كُلَّ مُؤْمِنٍ
يَسْمَعُ مُقَدِّمَةَ هذا الحديثِ أَوْ يَقْرَأُها، يَشْتَاقُ لِسَماعِ هذه
الوَصِيَّةِ!! وَمَعْرِفَةِ ما سَيُوصِي بِهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ
وسلم؟ لِأَنَّها مَوْعِظَةُ مَوَدِّعٍ. فَأَوْصَى رسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ
وَسلمَ بِكَلِمَتَيْنِ، فقال: ( أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى
اللهِ، والسَّمْعِ والطاعَةِ، وإِنْ كانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ) ، ثُمَّ
قال: ( فَإِنّه مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى
اخْتِلافًا كَثِيرا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الراشِدينَ،
تَمَسَّكُوا بِها، وَعَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ، وإيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ
الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ )
فَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ
البَلِيغَةُ الْمُؤَثِّرَةُ، مِنْ أَجْلِ ذِكْرِ التَّقوَى والسَّمْعِ
والطَّاعَةِ!. لِأَنَّه لا يَصْلُحُ أَمْرُ الدِّينِ والدُّنْيا، إِلَّا
بِالتَّقْوَى والسَّمْعِ والطاعةِ، حَتَّى لَوْ رَأَى الْمُسْلِمُ ما يَكْرَه،
وَرَأَى الأَثَرَةَ، فَإنَّه يَتَحَتَّمُ عَليهِ الصَّبْرُ وُجُوبًا، لا
اسْتِحْبابًا، وَيَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ لُزُومُ الجَماعَةِ، وَعَدَمُ إِظْهارِ ما
يُكَدِّرُها أَوْ يُشَوِّشُ عَلَيْها. لِأَنَّه كَما أَنَّ الجَماعَةَ رَحْمَةٌ،
فالفُرْقَةُ عذابٌ، يَحْصُلُ بِسَبَبِها تَفَرُّقُ الكَلِمَةُ، وإيغارُ الصُّدُورِ،
وَفَسادُ النُّفُوسِ، واخْتِلالُ الأَمْنِ، وضَياعُ أُمُورِ الناسِ، هذا مَا
دَلَّتْ عَلَيْهِ الأَدِلَّةُ، وأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأَمَّةُ، وشَهِدَ لَهُ
التاريخُ والواقِعُ.
يَجِبُ عَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَعْتَقِدَهُ،
وأَنَّ نُرَبِّيَ عَلَيْهِ أَنْفُسَنَا، وَشَبابَنا وَمَنْ نَعُولُ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: اتَّقُوا اللهَ، وَتَذَكَّرُوا
قَوْلَه سُبْحانَه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ).
فَإِنَّ هذه آيَةٌ عَظيمةٌ، تَحَدَّثَت عَن أُمُورٍ أَربَعةٍ،
كُلُّها في التوحيدِ وَوِحدةِ الصَّفِّ والْمَنْهَجِ: تَوْحيدُ اللهِ، وتَوحيدُ الإتِّباعِ، وتَوحيدُ الجماعةِ،
وتَوحيدُ الْمَنْهَج.
فَتَوحيدُ اللهِ مأخُوذٌ
مِن قَوْلِه: ( أَطيعُوا اللهَ
) ، وتوحيدُ الإتِّباع مأخُوذٌ مِن قَولِه: ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )، وتَوحيدُ
الجماعةِ مأخُوذٌ مِن قَولِه: ( وَأُولِي
الأَمْرِ مِنْكُم )، وتَوحيدُ الْمنهَجِ
مأخُوذٌ مِن قَولِه: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ). فَهِيَ آيَةٌ واحدةٌ،
اجْتَثَّت جُذُورَ الشِّركِ، والبِدَعِ، والحِزْبِيَّةِ، والاخْتِلاف.
كَمَا
يَجِبُ عَلَيْنا جَمِيعًا: أَنْ نُصْلِحَ ما بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ،
فإِنَّ اللهُ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وأَنْ
نَشْكُرَ نِعْمَةَ اللهِ، حَيْثُ مَنَّ عَلَيْنَا بِهذا الدِّينِ والأَمْنِ
وَرَغَدِ العَيْشِ. وأَنْ نَغْرِسَ في نُفُوسِ أَبْنائِنَا عَقيدَةَ التَّوْحِيدِ،
والتَسَلُّحَ بِالتَّقْوَى، وأَنْ يَكُونُوا صالِحِينَ مُصْلِحِينَ، حَرِيصِينَ
عَلَى تَقَدُّمِ بِلادِهِمْ في جَمِيعِ الْمَجالاتِ والتَخَصُّصاتِ.
اللَّهُمَّ
اجْمَعْ كَلِمَتنا، وأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنا، واجْعَلْنا هُداةً مُهْتَدِين، اللَّهُمَّ
أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادِتِك، اللَّهُمَّ أَوْزِعْنا أَنْ
نَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا وَعَلَى والِدِيْنا، وَأَنْ
نَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاه، يا رَبَّ العَالَمِين. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا
مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ
خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ،
وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ،
اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمُستضعفينَ
مِن الْمُؤمِنين فِي كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ
العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن
دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا
يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم
منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ
الكَائِدِينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا
بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك،
وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ
اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ،
الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ).
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119