من فقه أنس بن مالك رضي الله عنه
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس:
اتقوا الله تعالى ؛ فإن من اتقى الله كما أَمره عز وجل، جعل اللهُ له من أمره يسراً ومخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، وجعل له فرقانا يُميّز به الحقَ من الباطل .
عباد الله: ونحن في هذا الزمان - زمان الفتن بألوانها - بحاجة لتأمل الآيات والأحاديث الواردة في الفتن, وأخذ العبر والعظات والأحكام , والخروج بفقه ما ينبغي عمله عند الفتن في ضوء كتاب الله وصحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح ، ومن ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه عن الزبير بن عدي قال: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: " اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
فهذا حديث عظيم, رفيع القدر, كثير الفوائد في زمن كثرة فيه الفتن، والتبس الحق بالباطل على أكثر الناس, فهؤلاء جاءوا يشكون إلى أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو الذي لازم النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه عشر سنين، وكان من أجلاء الصحابة وعلمائهم ، جاءوا يشكون إليه ما يجدون من الحجاج بن يوسف الثقفي أحد الأمراء لخلفاء بني أمية، وكان معروفاً بالظلم وسفك الدماء، وكان جبارا عنيداً والعياذ بالله، وكان قد آذى الناس، فقال لهم أنس رضي الله عنه: "اصبروا " أمرهم بالصبر على جور ولاة الأمور، وذلك لأن ولاة الأمور قد يُسلّطون على الناس بسبب ظلم الناس كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }.
وقال العلامة السعدي في تفسيره على هذه الآية : " من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزّه إلى الشر ويحثه عليه، ويزّهده في الخير وينفّره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها. والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } ومن ذلك، أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنْعهم الحقوق الواجبة، ولَّى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين. كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف ".
فيا عبد الله: إذا رأيت ولاة الأمور قد ظلموا الناس في أموالهم أو في أبدانهم أو حالوا بينهم وبين الدعوة إلى الله عز وجل أو ما شابه ذلك، ففكّر في حال الناس تجد أن البلاء أساسه من الناس، هم الذين انحرفوا فسلّط الله عليهم مَنْ سلّط مِن ولاة الأمور, وفى الأثر وليس بحديث "كما تكونوا يولى عليكم ".
عباد الله: يخلط كثير من الناس بين المطالبة بالحقوق، وبين الخروج على الحاكم ، إذ لا تلازم بينهما. نعم طالب بحقك إذا كان لك حق، وذلك وفق الطرق الشرعية بالمكاتبات والمواجهات، ولا حرج فيه فإن حصل لك مرادك، وإلا فاصبر ولا تنزعن يداً من طاعة .
ثم قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
أي شر منه في الدين، وهذا الشر ليس شراً مطلقاً عاماً، بل قد يكون شراً في بعض المواضع، ويكون خيراً في بعض المواضع.
ومع هذا فإن الناس كلما ازدادوا في الرفاهية، انفتحت عليهم الشرور، فالرفاهية هي التي تدمر الإنسان، لأن الإنسان إذا نظر إلى الرفاهية وتنعيم الجسد غفل عن تنعيم القلب وصار أكبر همه أن ينعم هذا الجسد الذي مآله إلى الديدان والنتن, وهذا هو البلاء وهذا هو الذي ضر الناس اليوم لا تكاد تجد أحداً إلا ويقول : ما قصرُنا ؟ ما سيارتُنا ؟ ما فرشُنا ؟ ما أكلُنا ؟
حتى الذين يقرأون العلم ويدرسون العلم بعضهم إنما يدرس لينال رتبة أو مرتبة يتوصل بها إلى نعيم الدنيا، وكأن الإنسان لم يخلق لأمر عظيم، والدنيا ونعيمها إنما هي وسيلة فقط، نسأل الله أن نستعملها وإياكم في طاعته .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُمْ " يعني ما أخاف عليكم الفقر ، فالدنيا ستفتح . " ولكنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدّنْيا عليكُمْ كما بُسِطَتْ على مَنْ كانَ قبلَكُم فَتَنافَسُوها كَما تَنافَسُوها فتُهْلِكَكُمْ كما أهلَكَتْهُم " ، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، هذا الذي أهلك الناس اليوم ، الذي أهلك الناس اليوم التنافس في الدنيا ، وكونهم كأنهم إنما خلقوا لها لا أنها خلقت لهم ، فاشتغلوا بما خلق لهم عما خلقوا له ، وهذا من الانتكاس نسأل الله العافية .
ونسأله عز وجل أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وشعوبهم إنه جواد كريم . أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِين, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ النَّاصِحُ الأَمِين, صَلّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً إِلَى يَوْمِ الدِّين. أَمَّا بَعْد:
أيها المسلمون: فالواجب علينا جميعا أيها المسلمون، الصبر على ولاة الأمور، وإن ظلموا وجاروا لأنك سوف تقف معهم موقفاً تكون أنت وإياهم على حد سواء عند ملك الملوك، وسوف تكون خصمهم يوم القيامة إذا ظلموك ، لا تظن أن ما يكون في الدنيا من الظلم سيذهب هباءً منثوراً , وأنت سوف تقف معهم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل ليُقضى بينكم بالعدل، فاصبر وانتظر الفرج فيحصل لك بذلك اطمئنان النفس والثبات, وانتظار الفرج عبادة تتعبد به لله عز وجل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا " .
وثقوا يا عباد الله أن الشعب إذا صَلَحَ فسوف تضطر ولاة الأمور إلى الصلاح مهما كان, فاصبروا وأصلحوا أنفسكم، فإن ولاتكم سيصلحون رغماً عنهم فإذا صلحت الشعوب صلحت الولاة بالاضطرار.
واعلموا أن الظّلم خطره عظيم سواء من الحكام للرعية، أو من الرعية للحكام، ففي الحديث القدسي أن الله جل وعلا قال: " يا عِبَادِي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا "، وقال تعالى: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي لكمال عدله لا يظلم عباده .
فاتقوا الله تَعَالَى عباد الله، واحذروا الظلم فإنّ دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
فاللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تلبسه علينا فنضل يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم مَنْ أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين. اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |