لرزقكم
كما يرزق الطير
الخطبة
الأولى:
الحمد
لله الذي فقَّه من أراد به خيرًا في الدين، وشرع أحكام الحلال والحرام في كتابه
المبين، وأعز العلم ورفع أهله الذين اتقوه وكانوا به عالمين، أحمده حمدًا يفوق حمد
الحامدين، وأشكره على نعمه التي لا تُحصى وإياه أستعين، وأستغفره وأتوب إليه
وأتوكل عليه إنه يحب المتوكلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وبذلك
أُمرت وأنا من المسلمين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الذي أرسى قواعد الشرع
وبيَّنها أحسن تبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله ربكم؛ فإنه أهل أن يُتقى، واشكروه على نعمه التي لا
تُعد ولا تُحصى، فقد تأذن بالزيادة للشاكرين، وتوبوا إليه فإننا خطاءون وهو الغفور
الرحيم .
عباد
الله: لقد أفلح وأنجح من كان اعتماده وتوكله على الله، وكان لجوؤه وافتقاره إلى
الله -عز وجل-، ولقد خاب وخسر من كان لجوؤه وتوكله على مخلوق ضعيف مثله .
واسمعوا
إلى هذا الحديث عنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ
تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ
الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
صَحِيحٌ.
وَهَذَا
الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ
الَّتِي يُسْتَجْلَبُ بِهَا الرِّزْقُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا
لَكَفَتْهُمْ يَعْنِي: لَوْ حَقَّقُوا التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلَ؛ لَاكْتَفَوْا
بِذَلِكَ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَحَقِيقَةُ
التَّوَكُّلِ: هُوَ صِدْقُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ كُلِّهَا، وَكِلَةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ
الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ
سِوَاهُ.
وَاعْلَموا
أَنَّ تَحْقِيقَ التَّوَكُّلِ لَا
يُنَافِي السَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الْمَقْدُورَاتِ بِهَا، وَجَرَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَعَاطِي الْأَسْبَابِ مَعَ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ،
فَالسَّعْيُ فِي الْأَسْبَابِ بِالْجَوَارِحِ طَاعَةٌ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ
بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ إِيمَانٌ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] [النِّسَاءِ: 71] ، وَقَالَ
تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ}
ثُمَّ
إِنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْعَبْدُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا:
الطَّاعَاتُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِهَا، وَجَعَلَهَا سَبَبًا،
لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَهَذَا لَابُدَّ مِنْ فِعْلِهِ
مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَيْهِ،
فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ
يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرْعًا وَقَدَرًا.
وَالثَّانِي:
مَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَرَ عِبَادَهُ
بِتَعَاطِيهِ، كَالْأَكْلِ عِنْدَ الْجُوعِ، وَالشُّرْبِ عِنْدَ الْعَطَشِ،
وَالِاسْتِظْلَالِ مِنَ الْحَرِّ، وَالتَّدَفُّؤِ مِنَ الْبَرْدِ، وَنَحْوِ
ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا وَاجِبٌ عَلَى الْمَرْءِ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ.
الْقِسْمُ
الثَّالِثُ: مَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَعَمِّ
الْأَغْلَبِ، وَقَدْ يَخْرِقُ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ.
وَحَدِيثُ
عُمَرَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مِنْ قِلَّةِ
تَحْقِيقِ التَّوَكُّلِ، وَوُقُوفِهِمْ مَعَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ بِقُلُوبِهِمْ
وَمُسَاكَنَتِهِمْ لَهَا، فَلِذَلِكَ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَسْبَابِ،
وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَأْتِيهِمْ إِلَّا مَا
قُدِّرَ لَهُمْ، فَلَوْ حَقَّقُوا التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِقُلُوبِهِمْ،
لَسَاقَ إِلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ مَعَ أَدْنَى سَبَبٍ كَمَا يَسُوقُ إِلَى
الطَّيْرِ أَرْزَاقَهَا بِمُجَرَّدِ الْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ
الطَّلَبِ وَالسَّعْيِ.
الخطبة
الثانية:
الحمد
لله عليه يتوكل المتوكلون، وإليه يفزع الخائفون، لا إله إلا هو الإله الحق المبين،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتوكلين من خلق الله أجمعين صلى الله عليه
وعلى آل وصحبه أجمعين أما بعد فالتَّوَكُّلَ لَا
يُنَافِي الْإِتْيَانَ بِالْأَسْبَابِ بَلْ قَدْ يَكُونُ جَمْعُهُمَا أَفْضَلَ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَاسًا مِنْ
أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ،
قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَأَكِّلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي
حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَإِنَّمَا
الْمُتَوَكِّلُ حَقِيقَةً مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِعَبْدِهِ
رِزْقَهُ وَكِفَايَتَهُ، فَيُصَدِّقُ اللَّهَ فِيمَا ضَمِنَهُ، وَيَثِقُ
بِقَلْبِهِ، وَيُحَقِّقُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ فِيمَا ضَمِنَهُ مِنَ الرِّزْقِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَ التَّوَكُّلَ مَخْرَجَ الْأَسْبَابِ فِي اسْتِجْلَابِ
الرِّزْقِ بِهِ، وَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ،
وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}
وَاعْلَموا
أَنَّ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَمَنْ وَكَلَ أُمُورَهُ
إِلَى اللَّهِ وَرَضِيَ بِمَا يَقْضِيهِ لَهُ، وَيَخْتَارُهُ فَقَدْ حَقَّقَ
التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ وَالْفُضَيْلُ وَغَيْرُهُمَا
يُفَسِّرُونَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِالرِّضَا.
فَالْمُتَوَكِّلُ
عَلَى اللَّهِ إِنْ صَبَرَ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ
أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ صَابِرٌ، وَإِنْ رَضِيَ بِمَا يُقَدَّرُ لَهُ بَعْدَ
وُقُوعِهِ فَهُوَ الرَّاضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ بِالْكُلِّيَّةِ
وَلَا رِضًا إِلَّا فِيمَا يُقَدَّرُ لَهُ، فَهُوَ دَرَجَةٌ الْمُحِبِّينَ
الْعَارِفِينَ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَقُولُ أَصْبَحْتُ
وَمَا لِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.
اللهم
اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته، واستنصرك فنصرته...
اللهم
أنج المستضعفين .....
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |