للساجد ستةُ مشاهد ( من كلام ابن القيم رحمه الله) الخطبة الأولى الْحَمْدُ للهِ جَاعِلِ الصَّلَاةِ عِمَادَ الدِّينِ، وَعِيَاذَالْمُتَّقِينَ، وَسِرَاجَ الْيَقِينِ، وَمِنْهَاجَ الْمُهْتَدِينَ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً تُورِدُنَا مَوَارِدَ الْمُوَحِّدِينَ، وَتُلْحِقُنَا بِزُمْرَةِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، النَّبِيُّ الصَّادِقُ الْوَعْدِالْأَمِينُ . صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَتَسْلِيمًا، وَزَادَهُ شَرَفًا وَتَعْظِيمًا. أَمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّذَّةَ التَّامَّةَ وَالْفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَطِيبَ الْعَيْشِ وَالنَّعِيمَ؛ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِوَتَوْحِيدِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَاجْتِمَاعِ الْقَلْبِ وَالْهَمِّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ أَنْكَدَ الْعَيْشِ عَيْشُ مَنْقَلْبُهُ مُشَتَّتٌ وَهَمُّهُ مُفَرَّقٌ فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مُسْتَقَرٌّيَسْتَقِرُّ عِنْدَهُ وَلَا حَبِيبٌ يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ؛لِذَا قَالَ نَبِيُّنَا وَقُدْوَتُنَا r: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) رواه الإمام أحمد في المسند وإسناده حسن وَإِنَّمَا تَقَرُّالْعَيْنُ بِأَعْلَى الْمَحْبُوبَاتِ؛ فَالصَّلَاةُ قُرَّةُ عُيُونِالْمُحِبِّينَ فِي هَذِه الدُّنْيَا لِمَا فِيهَا مِنْ مُنَاجَاةِ مَنْ لَا تَقَرُّ الْعُيُونُ وَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وَلَا تَسْكُنُ النُّفُوسُإِلَّا إِلَيْهِ، وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِهِ وَالتَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ لَهُ وَاْلْقُرْبُ مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ السُّجُودِ، وَتِلْكَالْحَالُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي تَقَرُّ بِهَا الْعَيْنُ وَيَسْتَرِيحُ بِهَا الْقَلْبُ هِيَ الَّتِي تَجْمَعُ سِتَّةَ مَشَاهِدَ: الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَيْهَا وَالدَّاعِي إِلَيْهَا رَغْبَةَ الْعَبْدِ فِي اللهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَطَلَبَمَرْضَاتِهِ، وَالْقُرْبَ مِنْهُ، وَالتَّوَدُّدَ إِلَيْهِ، وَامْتِثَالَأَمْرِهِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَيْهَا حَظًّا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَأْتِي بِهَا ابْتِغَاءَوَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، مَحَبَّةً لَهُ وَخَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ، وَرَجَاءً لِمَغْفِرَتِهِ وَثَوَابِهِ. الْمَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ الصِّدْقِ وَالنُّصْحِ: وَهُوَ أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَهُ للهِ فِيهَا، وَيَسْتَفْرِغَجُهْدَهُ فِي إِقْبَالِهِ فِيهَا عَلَى اللهِ، وَجَمْعِ قَلْبِهِعَلَيْهَا وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَظَاهِرُهَا الْأَفْعَالُ الْمُشَاهَدَةُ وَالْأَقْوَالُالْمَسْمُوعَةُ، وَبَاطِنُهَا الْخُشُوعُ وَالْمُرَاقَبَةُوَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ للهِ، وَالْإِقْبَالُ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللهِ فِيهَا، بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ قَلْبُهُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ . الْمَشْهَدُ [الثَّالِثُ]: مَشْهَدُ الْمُتَابَعَةِوَالِاقْتِدَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَحْرِصَ كُلَّ الْحِرْصِعَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي صَلَاتِهِ بِالنَّبِيِّ ﷺ: وَيُصَلِّي كَمَا [كَانَ] يُصَلِّي لِقَوْلِهِ r: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؛ وَيُعْرِضُ عَمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ؛ مِنَ الزِّيَادَةِوَالنُّقْصَانِ، فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا أَمَرَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِاتِّبَاعِغَيْرِهِ. الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الْإِحْسَانُ: وَهُوَ مَشْهَدُ الْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُيَرَاهُ. وَهَذَا الْمَشْهَدُ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِبِاللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَى اللهَ-سُبْحَانَهُ- فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، يَتَكَلَّمُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَالْخَلِيقَةِ، فَيَنْزِلُ الْأَمْرُ مِنْ عِنْدِهِ وَيَصْعَدُإِلَيْهِ، وَتُعْرَضُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ وَأَرْوَاحُهُمْ عِنْدَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ. فَيَشْهَدُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَلْبِهِ، وَيَشْهَدُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَيَشْهَدُ قَيُّومًا، حَيًّا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، عَزِيزًا، حَكِيمًا، آمِرًا، نَاهِيًا، يُحِبُّ[وَيُبْغِضُ، وَيَرْضَى] وَيَغْضَبُ. وَمَشْهَدُ الْإِحْسَانِ أَصْلُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كُلِّهَا، فَإِنَّهُ يُوجِبُ [الْحَيَاءَ]، وَالْإِجْلَالَ، وَالتَّعْظِيمَ، وَالْخَشْيَةَ، وَالْمَحَبَّةَ، وَالْإِنَابَةَ، وَالتَّوَكُّلَ، وَالْخُضُوعَ للهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالذُّلَّ لَهُ؛ وَيَقْطَعُالْوَسَاوِسَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ، وَيَجْمَعُ الْقَلْبَ وَالْهَمَّ عَلَى اللهِ. فَحَظُّ الْعَبْدِ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ حَظِّهِمِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَبِحَسَبِهِ تَتَفَاوَتُالصَّلَاةُ، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ صَلَاةِ الرَّجُلَيْنِ مِن الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقِيَامُهُمَا وَرُكُوعُهُمَا وَسُجُودُهُمَا وَاحِدٌ. الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: [مَشْهَدُ المِنَّة]: [وَهُوَ] أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْمِنَّةَ للهِ -سُبْحَانَهُ-، كَوْنُهُأَقَامَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَهَّلَهُ [لَهُ]، وَوَفَّقَهُ لِقِيَامِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فِي خِدْمَتِهِ. فَلَوْلَا اللهُ - سُبْحَانَهُ- لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُيَحْدُونَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَيَقُولُونَ: وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} فَالْمِنَّةُ للهِ وَحْدَهُ فِي أَنْ جَعَلَ عَبْدَهُقَائِمًا بِطَاعَتِهِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بكم من نعْمَة فَمِنَ الله} وَهَذَا الْمَشْهَدُ مِنْأَعْظَمِ الْمَشَاهِدِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعَبْدِ، وَكُلَّمَا كَانَالْعَبْدُ أَعْظَمَ تَوْحِيدًا كَانَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْمَشْهَدِأَتَمَّ. الخطبة الثانية الْحَمْدُ اللهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُاللهِ، أَمَّا بَعْدُ: الْمَشْهَدُ السَّادِسُ: مَشْهَدُ التَّقْصِيرِ: وَأَنَّ الْعَبْدَ لَوِ اجْتَهَدَ فِي الْقِيَامِ بِالْأَمْرِغَايَةَ الِاجْتِهَادِ وَبَذَلَ وُسْعَهُ فَهُوَ مُقَصِّرٌ، وَحَقُّاللهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُأَنْ يُقَابَلَ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخِدْمَةِفَوْقَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَأَنَّ عَظَمَتَهُ وَجَلاَلَهُ-سُبْحَانَهُ- يَقْتَضِي مِنَ الْعُبُودِيَّةِ مَا يَلِيقُبِهَا. وَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يُوفِ رَبَّهُفِي عُبُودِيَّتِهِ حَقَّهُ، وَلَا قَرِيبًا مِنْ حَقِّهِ، عَلِمَتَقْصِيرَهُ وَلَمْ يَسَعْهُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُالِاسْتِغْفَارِ وَالِاعْتِذَارِ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِوَعَدَمِ الْقِيَامِ بِمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَأَنَّهُإِلَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيَعْفُوَ عَنْهُ فِيهَا أَحْوَجُ مِنْهُإِلَى أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ عَلَيْهَا ثَوَابًا؛ أَيِ: الْعُبُودِيَّةِ،وَهُوَ لَوْ وَفَّاهَا حَقَّهَا كَمَا يَنْبَغِي لَكَانَتْ مُسْتحَقَّةً عَلَيْهِ بِمُقْتَضى الْعُبُودِيَّةِ. وَدَلِيلُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍمَكْتُوبَةٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ ثَلَاثًا مَعَ أَنَّهُ قَامَبِفَرِيضَةٍ وَوَاجِبٍ عَلَيْهِ . |