الخُطْبَةُ
الأُولَى
الْحَمْدُ
للهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى جَزِيلِ إِنْعَامِهِ
وَجَمِيلِ أَفْضَالِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ
شَرِيكَ لَهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ فِي فِعَالِهِ، صَلَّى
اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ
وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ
أَيُّهَا النَّاسُ -وَنَفْسِي- بِتَقْوَى اللهِ، فَاتَّقُوهُ -رَحِمَكُمُ اللهُ-
تَقْوَى مَنْ أَنَابَ إِلَيْهِ.
ثبت في صحيح
البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أَبَغضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلحِدٌ
فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ
دَمِ امْرِئٍ مسلم بِغَيْرِ حَقٌّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) .
ففي هذا
الحديث إثبات هذه الصفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يُبغض، كما أنه سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى يحب، قال تعالى في القرآن: ) يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: ٥٤]؛ أي:
أهل الإيمان وأهل الاستقامة وأهل الصلاح؛ فهو يحبهم وهم كذلك يحبونه.
والعاقل عندما
يعرف هاتين الصفتين يجتهد غاية الاجتهاد في معرفة ما يحبه الله سبحانه وتعال ليفعله،
ومعرفة ما يبغضه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليجتنبه ويتركه.
هذه ثلاث خصال
أهلها هم أبغض الناس إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها
النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كلها تُعَدُّ من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها،
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
( [الأعراف: ٥٦]، فالأنبياء يبعثهم الله سُبحَانَهُ
وَتَعَالَى لإصلاح الأرض، وهداية الخلق، ودعوة الناس إلى الخير والفضيلة، وتحذيرهم
من الشر والرذيلة؛ فمِن الإفساد بل من أعظم الإفساد في الأرض فعل هذه الأمور، وخُصَّت
هذه الأمور الثلاثة بالذكر لأنها أشد أنواع الإفساد وأخطره.
فقوله :
" مُلحِدٌ فِي الحَرَمِ»؛ الحرم المراد به مكة التي حرمها الله وقد جاء في الحديث:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي
حَرَّم المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ } والمراد بتحريم إبراهيم مكة؛
أي: إظهاره حرمتها؛ وإلا فالذي يحرم هو الله رب العالمين.
قوله:(وَمُبْتَغٍ
فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّة)؛ مُبتغ: أي مريد وطالب في الإسلام سُنَّةَ
الجَاهِلِيَّةِ: أي: يبحث ويطلب ويريد سنة الجاهلية؛ فيسعى في إقامتها ونشرها والدعوة
إليها والترويج لها؛ فهذا إفساد، وأي إفساد أعظم من هذا؟!
الله عَزَّ وَجَلَّ
أصلح الأرض ببعثة المرسلين ثم يأتي من يأتي لينشر بين الناس سنة الجاهلية التي أبطلها
الرسول الكريم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وسنة الجاهلية: الطرائق والأعمال التي
كان عليها أهل الجاهلية , فالجاهلية: كل أمر
خالف ما عليه المرسلون؛ سواء في باب العلم أو في باب القول أو في باب العمل، حتى لو
أن إنسانًا فعل أمورًا هي من خصال الجاهلية وهو عالم بأنها محرمة، عالم بدليل تحريمها
ففعله هذا يُعد جاهلية. كمن جاء بأمرٍ من
صنيع أهل الجاهلية كالتفاخر بالأحساب مثلا والطعن في الأنساب أو أتى بالعقائد
المختلفة مثل عبادة الأوثان أو تقديس الصالحين أو غير لك .
وأخطر شيء من أنواع
الإفساد في الأرض مما هو متعلق بدنيا الناس وحياتهم :
قتل النفوس المعصومة وإراقة الدماء المحرمة وإزهاق
الأرواح ولهذا ذكر هذا الأمر مضمومًا إلى الشرك الذي هو أعظم الذنوب ﴿وَالَّذِينَ لَا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الفرقان: ٦٨] ، وهذا النوع من الإفساد الذي يتعلق بدنيا
الناس وحياتهم ذكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنا بقوله: «وَمُطَّلِبُ
دَمِ امْرِئٍ مسلم بِغَيْرِ حَقٌّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»؛ مطلب: يعني يبتغي ويريد ,
فإراقة الدم بغير حق من أعظم الجرم وأكبر الذنب. وقد جاء في الحديث الآخر : ( يَأْتِي
المَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا رَأْسَهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَيِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ
الأُخرَى، تَشخُبُ أَودَاجُهُ دَمًا، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ العَرْشَ، فَيَقُولُ المَقْتُولُ
لِلهِ: رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلقَاتِلِ: تَعِستَ،
وَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ ) ، فهذا نوع من الفساد خطير جدا، وهو يتعلق بدنيا
الناس وحياتهم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ
إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ r، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
واعلموا أن
الجاهلية أقسام :
جاهلية تكون
مطلقة دون قيد بزمن أو مكان وهذه كفر أكبر مخرج من الملة ولا يصح إطلاق هذه الجاهلية المطلقة بعد بعثة
النبي r , أما بعد
الاسلام فزالت الجاهلية المطلقة .
والقسم الثاني
جاهلية مقيدة بزمن معين أو بمكان دون مكان
أو بشخص دون شخص فهذه تقع ومع ذلك هي منهي عنها لأن كل ما نُسب إلى الجاهلية فهو
مذموم روى البخاري في صحيحه عن أبي ذر أنه
عير رجلاً بأمه فقال : يا ابن السوداء . فغضب النبي r وقال (أعيرته بأمه إنك امرؤؤ فيك جاهلية ) .
فعبادة القبور
ماجاءت إلا عن طريق ابتغاء سنن الجاهلية كذلك تعظيم الصور ورفع الصور كلها من ذاك من
أساءَ الظنَّ بربِّه فقد سلكَ طريقَ الجاهلين , ومن نسَبَ
النعمَ إلى غير الله، فما عرفَ فضلَه ولا شكَرَه، وهذا طريقُ الجاهلين ,وكل أمرٍ من الجاهليَّة فهو
مُهان، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ألا
كلُّ شيءٍ من أمر الجاهليَّة تحت قدميَّ موضوع» (رواه
مسلم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : قوله (سنة
الجاهلية) يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة، أي في شخص دون شخص كتابية أو وثنية
أو غيرهما، من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.
اللهم
صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك
حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى
آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم إنا نسألُك الجنَّة وما قرَّبَ
إليها مِن قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بك من النارِ وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عملٍ
برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم طهِّر قلوبَنا مِن النِّفاق،
وأعمالَنا مِن الرِّياء، وأعيُننَا مِن الخيانة يا ذا الجلال والإكرام. اللهم
أعِنَّا على ذِكرِك وشُكرِك وحُسن عبادتِك، اللهم أعِنَّا على ذِكرِك وشُكرِك
وحُسن عبادتِك يا رب العالمين. اللهم لا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح
لنا شأنَنا كلَّه.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تُحبُّ
وترضَى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، وأعِنه على كل خيرٍ يا رب
العالمين، وسدِّد آراءَه، اللهم وفِّقه ووفِّق بِطانتَه لما تُحبُّ وترضَى برحمتِك
يا أرحم الراحمين، اللهم ارزُقه الصحةَ والعافِيةَ، إنك على كل شيءٍ قدير. اللهم
احفَظ بلادَنا، اللهم احفَظ بلادَنا وحُدودَنا مِن كل شرٍّ ومكرُوهٍ يا رب
العالمين، اللهم عليك يا ذا الجلال والإكرام بمَن كادَ للإسلام والمُسلمين برحمتِك
يا أرحم الراحمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد
الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|