إنَّ
الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونَسْتغفرُهُ، ونَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنا، وسَيِّئَاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ
يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَه، وأشْهَدُ ألَّا إِلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شرِيكَ
له، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ
وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً.
أَمَّا بَعْدُ، فـ
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ))
أيها
المسلمون: إن
معايشَ العباد وأرزاقهَم الدنيوية وأُعطياتهم في الحياة بيد الله وحده، وهو الذي يَقسْمها
بين عباده، ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ أي: في الحياة الدنيا، والحال أن
رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا, إذا كانت معايش
العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط
الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها
النبوة والرسالة، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى، فاللّه أعلم حيث يجعل
رسالته.
معاشر
المسلمين: إن
الملل من نعمة الله آفة عظيمة قد يخسر العبدُ بسببها ما هو فيه، ويُصبح في حالٍ
يتمنَّى لو أن قد رضي بما كان عليه، يقول ابن القيم -رحمه الله- متحدثًا عن هذه
الآفة: "مِنَ
الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه، واختارها له، فيمَلُّها
ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم -لجهله- أنه خير له منها، وربه -برحمته- لا
يُخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذَرْعًا بتلك
النعمة وسَخِطَها وتَبَرَّمَ بها واستحكم ملله لها سلبه اللهُ إياها، فإذا انتقل
إلى ما طلبه ورأى التفاوتَ بين ما كان فيه وما صار إليه اشتد قلقُه وندمُه وطلب
العودةَ إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرًا ورشدًا أشهده أن ما هو فيه
نعمة عليه، ورضَّاه به، وأوسعه شكرَه عليه".اهـ
أُمّة
سبأ كان في مسكنهم آية.. جنتان عن يمين وشمال.. )بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ:15]
يسافرون بلا زاد، فطرقهم أشجار وثمار وظل وماء.. لكنهم قوم ملوا من تتابع النعم
وحياة النعيم فأرادوا التغيير ولو إلى الأسوأ (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ)
فالواجب
علينا -عباد الله- أن نحمد الله دائما على كل حال، تَحَدُّثًا بنعمة الله،
وإظهارًا لشكره, فهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول:
"لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ
زوجتي ما أَحْسَنَتْ عِشْرَتي، ولا أملُّ دابتي ما حملتني، إن المِلال من سيئ
الأخلاق" وصدق
-رضي الله عنه-؛ فالملال من سيئ الأخلاق وأقبح الخصال؛ إذ يجعل العبد يتنكر لنعمة
الله عليه ويتسَخَّط ولا يرضى بما قسم اللهُ له من الرزق.
فيا
أيها المسلمون: ما
بالُ أقوامٍ يَمَلُّون النعمةَ التي هم فيها، ويستصغرونها ويتطلعون إلى مَنْ
فُضِّلَ عليهم في الدنيا، وقد يؤدي بهم الحالُ إلى حسد غيرهم، فلا يشكر مولاه، ولا
يقنع بما آتاه، أين هؤلاء من النظرة الحقيقية لمتاع الدنيا قال تعالى ( وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)
أيها
المسلمون: إن
واقعنا اليومَ يشهد صورًا شتى من إصابة كثير من الناس بالملل، والشعور بالضيق
والضجر، وهذا ينشأ عن ضَعْف صلة العبد بربه وطاعته له، وإعراضه عن منهجه.
فمن
الناس من يعيش مع والديه أو أحدهما حياة سعيدة طيبة، بارًّا بهما محسنًا إليهما،
فإذا كَبِرَا عافَ الحياةَ معهما وملَّ صحبتَهما وتنكَّر لهما وأيُّ عقوق أعظم من
ذلك؟! ألم يعلم هذا الجاحدُ حقَّهما أن الله نهاه أن يسيء إليهما، قال الله –تعالى(
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا(
الْإِسْرَاءِ: 23]، ومن الناس مَنْ
يبدأ بتعلُّم القرآن أو الدروس الشرعية النافعة، ثم سرعان ما يصيبه المللُ،
ويستطيل الطريقَ فلا يثبت بل يستعجل ويترك ما هو فيه، وينتقل إلى علم آخر دون
تدرُّج، ومن غير منهجية في الطلب، ولا صبر ولا مصابرة.
أقول
قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب
العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله، خاتم النبيين، حثَّنا على الجِدِّ والعمل، ونهانا عن السآمة والملل، اللهم
صل وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما
بعد: فيا
عباد الله: هناك عدة وسائل لدفع هذه الآفة العظيمة وإزالتها من النفس، منها:
تقوية الصلة بالله،
وملازَمة العبد دعاءَ ربه؛ حتى يثبت ويواصل العمل، فقد أوصى رسولُ اللهِ -صلى الله
عليه وسلم- معاذَ بنَ جبلٍ -رضي الله عنه- فقال:
"أوصيكَ يا معاذُ، لا تَدَعَنَّ في
دُبُرِ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللهم أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ
عِبَادَتِكَ" (رواه
أبو داود
ومنها
لزوم القناعة بما أعطاك الله ثبت في صحيح مسلم أن النبي r قال (قد أفلح من أسلم
ورُزِق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه) فالقناعة كنز لا يفنى
ومنها النظر لمن هو دونك في الدنيا روى مسلم في
صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله r-:
" ( انظُرُوا إلى مَنْ هو أسفل منكم، ولا
تنظُرُوا إلى مَنْ هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ ألَّا تزدروا نعمةَ الله عليكم"؛ -أي: أجدر أن يشكر المرء نعمة الله عليه
إذا هو قَنِعَ بما أُعْطِيَ، ولم يمد عينيه لما مُتِّعَ به الآخرون، فالعبدُ حُرٌّ
إن قَنِعَ، والحُرُّ عَبْدٌ إِنْ طَمِعَ.
أيها المسلمون: اجعلوا نُصْبَ أعينكم
وأنتم في طريق سيركم إلى ربكم هدي قدوتنا -صلى الله عليه وسلم-، فمع أن الله قد
غفر له ما تقدَّم وما تأخَّر من ذنبه إلا أنه لم ينقطع عن العبادة، بل كان دائم
الصلة بربه، مُقْبِلًا عليه، مجتهدًا في طاعته، لا يكل ولا يمل، ولا يسأم ولا يفتر.
اللهم ألهمنا رشدنا
وقنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا واغفر لنا خطأنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما
أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدِّنا وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا .
اللهم اجعلنا لك
شكارين ، إليك أواهين منيبين ، تقبل يا رب توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وأجب دعواتنا ،
وثبت حجتنا ، واسلل سخائم صدورنا ، وعافنا واعف عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في
أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ
بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة
الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين
سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
سبحان ربك رب العزة
عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
|