شرحُ
حديث حذيفة رضي الله عنه في الفتنِ، والتحذير من مُفارَقَةِ الجماعة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقُوا اللهَ تعالى، واسْتَعِدُوا
قِبْلَ المَوْتِ لِما بَعْدَ المَوتِ، وابْذُلُوا أَسْبابَ نَجاتِكُم، وتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِن الفِتَنِ، واسْأَلُوا رَبَكُم السلامَةَ مِنْها، واعْرِفُوا كَيْفَ تَنْجُونَ مِنها، قال حُذَيْفَةُ رضي اللهُ عنه: كان الناسُ
يَسْأَلُونَ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَن الخَيْرِ، وكَنْتُ أَسْأَلُه عَن
الشَّرِّ، مَخافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يا رسولَ الله، إنَّا كُنَّا في
جاهِلِيَّةٍ وَشَرّ، فّجاءّنا اللهُ بهذا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ
مِن شَرٍّ؟ قال: ( نَعَم ). قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذلك الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قال:
( نِعَم، وفِيهِ دَخَن ). قُلْتُ: وما دَخَنُه؟ قال: ( قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ
هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُم وَتُنْكِر ). وفي لَفْظٍ: ( يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ
سُنَّتِي ويَهْدونَ بِغَيْرِ هَدْيِي )، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذلك الخَيْرِ مِن
شَرّ؟ قال: ( نَعَم، دُعاةٌ على أَبْوابِ جهنمَ، مَنْ أَجابَهُم إِلَيْها قَذَفُوه
فِيها ). قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهُم لَنا، قال: ( هُم مِن جِلْدَتِنا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِألْسِنَتِنا ). قُلْت: فَما تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذلك؟
قال: ( تَلْزَمُ جماعةَ المسلمين وإِمامَهُم ). قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُم
جَماعةٌ ولا إِمامٌ؟ قال: ( فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها، وَلَوْ أَنْ
تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةْ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ على ذلك ).
هذا الحديثُ العَظيمُ، يُبَيِّنُ شَيْئًا مِن
مَوقِفِ المُؤْمِن في الفِتَنِ، وكَيْفِيَّةَ النَجاةِ مِنْها، والتي مِنْ
أَهَمِّها أَنْ يَخافَ المُسْلِمُ مِن الشَرِّ وَيَسْأَلَ عَنْه، كَيْ يَعْرِفَ
طَريقَ السلامَةِ مِنْه. ولِذلكَ نَقْرَأُ في القُرْآنِ أَنَّ إبراهيمَ عليه
السلامُ، الذي كَسَّرَ الأصنامَ، دعا رَبَّه فقال: ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الأَصْنَامَ )، لِأَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الشُّرُورِ. وأَخْبَرَ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ إيمانَ العَبْدِ لا يَكْتَمِلُ حتى: ( يَكْرَهَ
أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النار ). لأَنَّه لَيْسَ
بَعْدَ الكُفْرِ ذَنْبٌ، فَلَيْسَ هُناكَ شَرٌّ أَعْظَمُ مِن شَرِّ الكُفْرِ
والشِّرك. وهذا ما جَعَلَ حَذَيْفَةَ يَسْأَلُ عَنْه بِحِرْصٍ وعِنايَةٍ فقال: (
كُنَّا في جاهِلِيَّةٍ وشَرِّ، فَجاءَنا اللهُ بِهذا الخَيْرِ )، أَيْ كُنَّا
مُشْرِكينَ باللهِ، وفي ضَلالَةِ عَمْياءِ، وبُعْدٍ عَن الإسلامِ وتعالِيمِه، فَجاءَنا اللهُ بِهذا الدِّين، ومَنَّ اللهُ عَلَيْنا بِبِعْثَتِكَ، فَهَلْ بَعْدَ
ذلك مِنْ شَرِّ؟ ولَيْسَ المُرادُ أَنَّ الجاهلِيَةَ العُظْمَى سَتَعُودُ
وَتُطْبِقُ عَلى البَشَرِيَّةِ، لِأَنَّ اللهَ وَعَدَ بِنُصْرَةِ دِينِهِ
وظُهُورِهِ عَلى الدّيِنِ كُلِّه. وإِنَّما المُرادُ: عَوْدَةٌ شَيْءٍ مِمَّا
مَضَى مِمَّا كانَ أَهْلُ الجاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ. فقال: ( نَعَم ). فإِنَّ
الشِّرْكَ باقٍ، والبِدَعَ تَظْهَرُ ويَكْثُرُ دُعاتُها، والفِتَنُ التي يلتَبِسُ
فيها الحَقُّ بالباطِلِ تَعُودُ. ثُمَّ قال: وهل بَعْدَ هذا الشَرِّ مِنْ خَيْر؟ قال:
( نعم، وفيه دَخَن ). فيه حَقُّ وباطِلٌ، قُلْتُ: وما دَخَنُه؟ قال: ( قَوْمٌ
يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي. وَيِهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي. تَعْرِفُ مِنْهُم
وَتُنْكِر ). أَي: أَنَّهُم يَدْعُون إِلى الدِّين، ولَكِنَّهُم على مَنْهَجٍ
فاسِدٍ، وعَقائِدَ باطِلَةٍ، ويَسْلُكُون طُرقًا في الدَعْوَةِ مُبَتَدَعَةً، ولذلك قال: ( تَعْرِفُ مِنْهُم وتُنْكِر )، أَيْ: أَنَّ بَعْضَ أَوامِرِهِم
وأَفْعالِهِم ونصائِحِهِم مَعْرُوفَةٌ. وبَعْضُها مُبْتَدَعَةٌ مُنْكَرَةٌ
مُثِيرَةٌ لِلشَّكِّ، وهُنا يَكْمُنُ الخَطَرُ، لِأَنَّهُم يَسْتَنُّونَ
وَيَهْدُونَ، وهذا ما يَجْعَلُ باطِلَهُم يَرُوجُ، لِأَنَّ المُسْلِمِين
يُحِبُّونَ أَهْلَ الخَيْرِ وَيَثِقُونَ بِهِم. مِمَّا يَجْعَلُ المُسْلِمَ
يَكُونُ عَلى حَذَرٍ، لِأَنَّ أَغْلَى ما يَمْلِكُ دِينَه.
ثُمَّ قال: وَهَلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ مِن
شَرِّ؟ قال: ( نَعَم، دُعاةٌ عَلَى أبوابِ جهنم، مَن أَجابَهُم إليها قَذَفُوه
فيها )، يَدْعُونَ إلى النارِ والعِياذُ باللهِ، كما قال تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ
لَا
يُنصَرُونَ
)، يَدْعُون
إِلى
الشِّركِ
والبِدَعِ، يَدْعُونَ
إِلى
الإلحادِ
والتَشْكِيكِ
بِهذا
الدِّينِ
ومُسَلَّماتِه، يَدْعُونَ
إِلى
عَدَمِ
التَقَيُّدِ
بِأَحكامِ
الإسلامِ وتعالِيمِهِ بِاسمِ الحُرِّيَّةِ، يَدْعُونَ إِلى الانْحِلالِ
والتَبَرُّجِ والسُّفُورِ واتِّباعِ الشَّهَواتِ، في كُتُبِهِم وقَنَوَاتِهِم
وَمَواقِعِهِم. وَسَبَبُ انتِشارِ فِتْنَتِهِم وَرَواجِها، أَنَّهُم عَرَبٌ
ويَدَّعُونَ الإسلامَ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عِبادَ الله: ثم قال حذيفةُ رضي اللهُ عنه:
فما تَأْمُرُني إِنْ أَدْرَكَنِي ذلك؟ قال: ( تَلْزَمُ جماعةَ المسلمين وإِمامَهُم
)، أَي: كُنْ مَعَ المُسلمين في بَلَدِكَ، ومَعَ وُلاةِ الأَمْرِ، حتى لَو
رَأَيْتَ نَقْصاً، أَو ساءَتْكَ بَعْضُ التَصَرُّفاتِ، أَو كَرِهْتَ بَعْضَ الأُمُور، وإِيَّاكَ أَنْ تَشُذُّ عَنْهُم، فَإِنَّ في ذلك نَجاتَكَ وسَلامَتَك، ولِأَنَّ
مُفارَقَةَ الجماعَةِ والشُّذُوذَ عَنْها تُعْتَبَرُ مِن الجاهِلِيَّةِ والشَّرِّ
الذي أَنْتَ تَسْأَلُ عَنْه، وتَخافُ أَنْ يُدْرِكَكَ.
قال: فإنْ لَم يَكُن لَهُم جَماعَةٌ ولا إِمامٌ؟ أَيْ: إذا وَصَلْنا إلى حالَةٍ لا
يَكُونُ فيها إِمام وَوَلِيُّ أَمْرٍ لَنا أَو حاكِمٌ، أَو كُنَّا في بَلْدَةٍ
كافِرَةٍ أَو حاكِمُها كافِرٌ، قال ( فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها، وَلَوْ
أَنْ تَعَضَّ عَلى أَصْلِ شَجَرَةٍ. حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ، وَأَنْتَ على ذلك
). وإِيَّاكَ
أَنْ تَنْتَمِيَ إِلى أَحْزابٍ أَو جَماعاتٍ أَو فِرَقٍ، حَتَّى لَو لَبِسَت
لَبُوسَ الإسلامِ أَو الدَّعْوةِ أَو الإصلاحِ. فَإِنَّ هذا هو سَبيلُ السلامَةِ.
وإِذا كان المُسْلمُ مأْمُورًا بِاعتِزالِ الفِرَقِ والجماعاتِ في هذه الحالَةِ، فَكَيْفَ إذا كانت مَوجُودةً في بُلْدانِ
المسلمين، ولَها تَنْظِيماتُها وأُمَراؤُها الذين تُعْقَدُ لَهُم البيعَةُ
والسَّمْعُ والطاعةُ؟ فإِنَّ تَرْكَها واعْتِزالَها والحَذَرَ والتَحْذِيرَ مِنْها
واجِبٌ مِن بابِ أَوْلى على كُلِّ مُسْلِمٍ يُريدُ نَجاتَه في الدنيا ويَوْمَ
يَلْقَى الله. لأن وُجُودَها هو مُفارَقَةٌ لِلجماعة، ونَزْعٌ لِيَدِ الطاعة، والانتماءُ إليها كذلك. وَقدْ قَالَ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام: ( مَنْ فارَقَ الجماعَةَ
فَماتَ، فَمِيتَتُه جاهِلِيَّة ).
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اهدنا
لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهْدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها
إلا أنت، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم
خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا
بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم
من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ لبلادنا دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها
وسيادتها، اللهم انصرها على من يكيد لها في داخلها وخارجها، اللهم أخرجها من الفتن
والشرور، واجعلها أقوى مما كنت، اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين
قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات (
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|