الإسلامُ
دِينُ العَدْلِ وَتَحْريمُ الظُّلْمِ في تَوزيع الْمِيراث
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا
بعد،
أيُّها
الناسُ: اتقُوا اللهَ تَعالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الواجِباتِ عَلَى
الْمُسْلِمِ، أَنْ يَكُونَ عادِلًا فِي أَحْكامِهِ، وَأَقْوالِهِ، وَتَعامُلاتِهِ.
فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ العَدْلَ فِي كِتابِهِ، وَأَوْجَبَهُ عَلَى عِبادِهِ، وذَكَرَ
فَضَائِلَه.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي فَضْلِ العَدْلِ وَأَهْلِه:
مَا رواه مُسْلِمٌ عَنْ عبدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رضيَ اللهُ عَنْهُمَا،
قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّم: ( إِنَّ
الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمنِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ،
وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا ).
وَالمَعْنَى: أَنَّ العادِلِينَ فِي
أمَاكِنَ مُرْتَفِعَةٍ، مُقَرَّبُونَ إلَى الرحمنِ، وَمُكَرَّمُونَ، فَإِنَّهُمْ
بِعَدْلِهِم ارْتَفَعُوا فِي الدنيا، ورَفَعَ اللهُ قدْرَهُم وَشَأنَهُمْ حَتَّى
صارُوا كَالمَصابِيحِ التي يُقْتَدَى بِها. وَهَكَذا شَأْنُهم في الآخِرَةِ،
يَرْفَعُ اللهُ قَدْرَهُمْ، وَيُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ، وَيَجْعَلُهُمْ عَلَى
مَنَابِرَ مُرْتَفِعَةٍ مُضِيئَةٍ، يَراها الناسُ في مَقامٍ رَفِيعٍ قَرِيبٍ مِن
الرحمنِ.
لِماذَا اسْتَحَقُّوا هَذَا الثَّوَابَ؟
لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ
وَرَدَتْ فِي الحديثِ:
الأوَّلُ:
الحُكْمُ، وَهَذَا عامٌّ، يَشْمَلُ كُلَّ حُكْمٍ يَحْكُمُ بِهِ الْمَرْءُ،
سَواءً كانَ فِي الوِلايَةِ العُظْمَى أوْ غَيْرِها. فَهُوَ عامٌّ حَتَّى فِي
أَقْوالِ العَبْدِ وَتَعامُلَاتِهِ، وَفِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، ونُصْحِهِ
وإرشادِهِ وَفَتْواه، بَلْ حَتَّى إذا تَكَلَّمَ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّه يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ فِيمَا يَقُولُ: فَلَا يَغْتابُ، وَلَا يَتَّهُمُ
بِالباطِلِ. بَلْ وَحَتَّى مَعَ نَفْسِهِ، فَلَا يَرْفَعُها فَوْقَ قَدْرِها.
وَيَقُولُ الحقَّ والصِّدْقَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَعَ صَدِيقِهِ، أَوْ
عَدُوِّهِ.
الثاني:
العَدْلُ فِي الأَهْلِ، لِأَنَّه قال في الحديثِ: ( وَأَهْلِيهِمْ )، وَذَلِكَ مَعَ الزَّوْجَةِ،
فَيُحْسِنُ إلَيْها، وَيُعْطِيها حَقَّها كامِلًا مُوَفَّرًا، وإذا كانَ لَهُ أَكْثَرُ
مِنْ زَوْجَةٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ، وَإِلَّا فَإِنَّه
يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ. وَيَعْدِلُ أيْضًا بَيْنَ
أَوْلَادِهِ فِي النَّفَقَةِ والْمُعامَلَةِ والإِحسانِ.
الثالث:
العَدْلُ فِي الوِلَايَةِ، لِأَنَّه قال في الحَدِيثِ: ( وَمَا وَلُوا ). أَيْ مَا تَوْلَّوْا مِنْ أَعْمالٍ،
سَوَاءً كانَتْ وِلَايَةً عُظْمَى عَلَى الْمُسْلِمين، أَوْ وَزَارَةً، أَوْ
قَضاءً، أَوْ تَدْرِيسًا، أَوْ وِلَايَةَ مالِ يَتِيمٍ، أَوْ نَظارَةَ وَقْفٍ،
أَوْ قَسْمَ صَدَقاتٍ وَزَكَوَاتٍ. كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَلَّاه الْمَرْءُ.
وَكُلُّ ذلك مِمَّا يَجِبُ فَيهِ العَدْلُ، وَيَحْصُلُ لِصاحِبِهِ الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ
في الحَديثِ.
وَمِن الأَدِلَّةِ أَيْضًا قَوْلُه تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ )، أيْ: بِالعَدْلِ. وقال تَعالَى: ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )، وقالَ تَعالَى: ( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ).
وَقالَ تَعالَى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )،
أَيْ: بِالعَدْلِ. وَالعَدْلُ: هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوضِعِه، وإعْطَاءُ
الشَّيْءِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَإِذا كانَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَجَبَتْ الْمُساوَاةُ،
وإذا كانَ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، وَجَبَ التَّفْرِيقُ. فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ
الْمُفْتَرِقَيْنِ ظُلْمٌ. وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَساوِيَيْنِ ظُلْمٌ.
وَلِذَلِكَ فَرَّقَ اللهُ تَعالَى بَيْنَ الْمُسْلِمِ والكافِرِ، فِي الدنيا
والآخِرَةِ. وَفَرَّق بَيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثَى فِي كَثِيرٍ مِن الأحكامِ: فِي
الْمِيراثِ، والعَقِيقَةِ، والشَّهادَةِ، بَلْ وَفِي بَعْضِ العِبادِاتِ.
وَلَكِنَّه ساوَى بَيْنَهُما فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ. وَكَذَلِكَ فَرَّقَ الشارعُ
الحَكِيمُ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ فِي حَدِّ الزِّنَا. وَغَيْرُ
ذلك مِنْ الأَدِلَّةِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ:
عِبادَ اللهِ: إِنَّ
مِن العَدْلِ الواجِبِ يا عِبادَ اللهِ: العَدْلَ في قِسْمَةِ اْلْمِيراثِ،
وَعَدَمَ الظُّلْمِ فِيها: فَإِنَّ اللهَ تَعَالى حَكَمٌ قِسْطٌ، بَيَّنَ
أحْكامَ الْمَوارِيثِ، وَعَظَّمَ شَأْنَها، وَأعْطَى كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه،
وَبَيَّنَ أَنَّها وَصِيَّةٌ مِنْه لِعِبادِهِ، وَقالَ سُبْحانَهُ بَعْدَ أَنْ
بَيَّن أَحْكامَها: ( فَرِيضَةً مِن اللهِ إِنَّ
اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ). كُلُّ ذلكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَّقُوا
اللهَ في شَأْنِها. فَيَجِبُ العَمَلُ بِها كَمَا أَمَرَ اللهُ، فَلَا يَجُوزُ
كَتْمْ شَيْءٍ مِنْها عَنْ الوَرَثَةِ، وَعَدَمُ ذِكْرِهِ ضِمْنَ التَّرِكَةِ.
أَوْ التَّحايُلُ مِنْ أَجْلِ إسْقاطِ حَقِّ بَعْضِ الوَرَثَةِ أَوْ إسْقاطِ
بَعْضِ حَقِّهِ، خُصُوصًا الْمَرْأَةَ أَوْ الأَطْفالَ الصِّغارَ. أَوْ تَأْخِيرُ
قِسْمَةِ الْمِيراثِ والْمُمَاطَلَةُ في ذلكَ، مُجامَلَةً لِبَعْضِ الوَرَثَةِ،
أَوْ لِأَنَّ بَعْضَ الوَرَثَةِ مُسْتَفِيدٌ مِنْ بَعْضِ العَقاراتِ أَو الْمُمْتَلَكاتِ
أَوْ الأمْوالِ. أَوْ إحْراجُ بَعْضِ الوَرَثَةِ مِنْ أَجْلِ التَّنازُلِ عَنْ
بَعْضِ حَقِّهِ.
اللَّهُمَّ
أَلِّفْ بينَ قُلُوبِنا وأصلِحْ ذاتَ بينِنا واهدنا سُبُلَ السلام، ونَجِّنا من
الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقًّا، وارْزُقْنَا
اتِّباعَه، وأَرِنَا الباطِلَ باطِلًا وارْزُقْنا اجْتِنابَه، اللَّهُمَّ آتِ
نُفُوسَنا تقواها، وزَكِّها أنت خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أَنتَ وَليُّها وَمَوْلاها،
اللهُمَّ خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا فِي الحـَلالِ مِن رِزقِك،
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا
بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا
دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي
فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا،
وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ
رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ
وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ
الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ
البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ
دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ
والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين،
اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ
أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا
متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ،
اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك،
وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ
يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ،
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119