الحَسَناتُ
والسَّيِّئَاتُ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ:
اتَّقُوا اللهَ تعالَى، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،
وأَرْحَمُ مِن الوالِدَةِ بِوَلَدِها. وَمِنْ
رَحْمَتِهِ: أَنْ جَعَلَ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثالِها، إِلَى سَبْعِمَائَة
ضِعْفٍ، إلى أَضْعافٍ كَثِيرَةٍ. وَجَعَلَ السَّيِّئَةَ بِمِثْلِها.
فَالحَسَنَةُ:
تَتَضَاعَفُ عَلَى حَسَبِ إخْلاصِ العَبْدِ وكَمالِ مُتابَعَتِهِ للنبيِّ صلى
اللهُ عَلَيْهِ وسلم، لِأَنَّ العِبادَ يَتَفاوَتُونَ في إِخْلاصِهِمْ
واتِّباعِهِمْ، فَبَعْضُ العِبادِ يُعْطَى بِحَسَنَتِهِ عَشْرَ أَمْثالِها،
وَبَعْضُهُمْ يُعْطَى بِحَسَنَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذلكَ، وَبَعْضُهُمْ تُضاعَفُ إلى
سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، وبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِن ذلك!! مَعَ العِلْمِ أَنَّ
العَمَلَ واحِدٌ، ولَكِنَّ هذا التَّفاوُتَ عَلى حَسَبِ قُوَّةِ الإخْلاصِ وكَمالِ
الْمُتابَعَةِ.
وَأَمَّا
السَّيِّئَةُ: فَبِمِثْلِها فَقَطْ. فَمَا هُوَ عُذْرُكَ يَوْمَ
القِيامَةِ إذا رَجَحَتْ سَيِّئاتُكَ عَلى حَسَناتِكَ، مَعَ هذا الفَضْلِ
العَظِيمِ مِن اللهِ الرَّؤُوفِ الرِّحِيمِ ؟
وَأَعْظَمُ مِنْ
هذا: أَنَّ مَنْ تابَ إلى اللهِ مِنْ ذُنُوبِهِ تَوْبَةً نَصُوحًا،
وأَصْلَحَ، فَإِنَّ اللهَ يُبَدِّلُ سَيِّئاتِهِ حَسناتٍ.
وَأَعْظَمُ
الحَسَناتِ عَلى الإِطْلاقِ: حَسَنَةُ
التَّوْحِيدِ، بَلْ هِيَ بَوَّابَةُ الحَسناتِ الأُخْرَى. فَإِنَّ العَبْدَ
مَهْمَا قَدَّمَ مِن الحَسناتِ، فَإِنَّها لا تُقْبَلُ مِنْه إلا إذا آمَنَ
بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَوَحَّدَ اللهَ في إلهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وأَسْمائِهِ
وَصِفاتِهِ.
وَأَكْبَرُ
السَّيِّئاتِ عَلَى الإِطْلاقِ: سَيِّئَةُ
الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ مُحْبِطٌ لِجَمِيعِ الحَسناتِ. كَمَا قال تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
). فَمَنْ دَعا غَيْرَ اللهِ، أَوْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ
غَيْرَ اللهِ يَعْلَمُ الغَيْبَ، أَوْ يَتَصَرَّفُ في الكَوْنِ، أَوْ عَكَفَ
عِنْدَ قَبْرٍ يَرْجُوا نَفْعَ صاحِبِهِ أَوْ مَدَدَه، أَوْ شَفاعَتَهُ، فَقَدْ وَقَعَ
في نَفْسِ الشِّرْكِ الذي وَقَعَ فِيه الْمُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ
الأَوَّلِينَ، ما عَبَدُوا الأَصْنامَ لِذَواتِها، وإِنَّمَا دَعَوْها
وَتَوَسَّلُوا بِها وَعَكَفُوا عِنْدَها وَرَجَوْا نَفْعَها، لِأَنَّ كَثِيرًا
مِنْها يُمَثِّلُ أَشْخاصًا صالِحِينَ، حَيْثُ كانُوا يَعْكُفُونَ عِنْدَ
قُبُورِهِم في أَوَّلِ الأَمْرِ، كَمَا قالَ ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عَنْهما في
قِصَّةِ اللَّاتِّ: ( كانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ
لِلْحاجِّ فَمَاتَ فَعَكَفُوا عَلى قَبْرِهِ )، وّهّكّذا الأَمْرُ في
قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ الذين عَبَدُوا: وَدًّا وَسُواعَا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرًا. قال ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه الله: قال غَيْرُ واحدٍ مِن السَّلَف:
" لَمَّا ماتُوا عَكَفُوا على قبورِهم، ثم صوَّرُوا تماثيلَهم، ثم طالَ
عليهِمُ الأَمَدُ فَعَبدُوهُم".
فانظُرُوا يا
عبادَ اللهِ كيفَ تَدَرَّجَ بِهِمُ الشيطانُ وتَنَقَّلَ بِهِم مِن مَرحلَةٍ إلى
مَرْحَلَة.
وهذا يَدُلُّ
دِلالَةً واضِحةً على أن شِرْكَ القُبورِ قَدِيمٌ بِقِدَمِ الشرك، بل هو مَنْشأُ
الوثنيةِ والعياذُ بالله.
ثُمَّ اعْلَمُوا يَا عِبادَ اللهِ: أَنَّ حُقُوقَ العِبادِ لا تُتْرَكُ يَوْمَ القِيامَةِ،
وَأَنَّ العَبْدَ قَدْ يَجْتَهِدُ في جَمْعِ الحَسَناتِ، ثُمَّ تَأْكُلُها حُقُوقُ
العِبادِ في الآَخِرَةِ، وقَد دَلَّت الأدلةُ على أَنَّ أذيةَ الْمُسلِمين،
مِن أعظمِ ما يقضي على حسناتِ الْمَرْءِ في الآخرة. حتى لو كان الْمَظْلُومُ أقربَ
قريبٍ، قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه، في تفسيرِ قولِه تعالى: ( فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ
). قال: " يُؤْخَذُ بِيَدِ العبدِ أو الأَمَةِ
يومَ القيامة، فيُنادَى بِه على رُؤوسِ الخلائِق، هذا فُلانُ بنُ فُلان، مَنْ كان
له عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأتِ إلى حَقِّه، فَتَفْرَحُ الْمَرأَةُ أن يكونَ لَها
حَقٌّ على أبِيها أو أخِيها، أو زوجِها. ثم قرَأَ: ( فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ
). حتى لَو كانَ الحَقُّ في الأمورِ الْمُباحة، ولذلك قال عليه الصلاةُ والسلام: (
يُغْفَرُ للشهيدِ مِنْ أوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ
إلا الدَّيْن ). وهذا دليلٌ واضحٌ على أن حُقُوقَ العبادِ، لا تُكَفِّرُها
الحسناتُ الْماحِيَة.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى، وَاعْلَمُوا أَنه ليسَ كُلُّ حَسَنَةٍ توضَعُ في الْمِيزان،
وإنَّما الحَسَنَةُ التي تُوضَعُ فِي مُقَابِلِ السَّيِّئَةِ، هِيَ الحَسَنَةُ الْمَقْبُولَةُ،
فَيَجِبُ عَلَى الْمؤمِنِ أَنْ يَعْلَمَ ذلكَ، كَيْ لا يَغْتَرَّ وَيُعْجَبَ
بِعَمَلِه، فَيَقُولُ أَنَا صَلَّيْتُ كَذَا وَكَذَا، وَصُمْتُ كَذَا وَكَذَا،
وحَجَجْتُ وتَصَدَّقْتُ وَقَرَأْتُ القُرْآنَ، وَغَيْرُ ذلك مِن الأعمالِ. فَإِنَّ
العَبْدَ قَدْ يَعْمَلُ العَمَلَ الكثيرَ، وَلَا يُقبَلُ مِنْه إلَّا القَلِيلُ.
والحَسَنَةُ الْمَقْبُولَةُ
يا عِبادَ الله: هي التي تَحَقَّقَ فيها
شرطان: الإخلاصُ لله، ومُوافقةُ هَدْيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيها.
وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ فاعِلُ هذِهِ الحَسَنَةِ مُؤْمِنًا، لِأَنَّ الإسلامَ
شَرْطٌ أَساسٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ.
اللهمَّ ثَقِّلْ مَوَازِينَنا، وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئاتِنا، وِتِقَبَّلْ مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العِلِيمُ، اللهُمَّ احفظْنا بالإِسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإِسلامِ قاعدِين
واحفظْنا بالإِسلامِ راقدِين ولا تُشْمِتْ بِنا أَعداءَ ولا حَاسِدِينَ، اللَّهُمَّ
أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا
دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي
إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ،
وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ
الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ،
وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ
عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك
الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ
مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا
قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ
الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك،
وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا
ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|