ثَمَراتُ
الإيمانِ بالقضاءِ والقَدَرِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ،
أحَدُ أُصُولِ الإيمانِ السِّتَّةِ، التي لا يَكُونُ العَبْدُ مُؤْمِنًا
إلَّا بِها، وَهِيَ: الإيمانُ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
والإيمانُ
بِالقَدَرِ: يُعْتَبَرُ مِن الإيمانِ بِالغَيْبِ الذي لَا يَجُوزُ
لِلْمُؤمِنِ أَنْ يَخُوضَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُؤمِنُ بِهِ وَيُسَلِّمُ. فَهُوَ
سِرُّ اللهِ، كَمَا قال ذلك عبدُاللهِ بنُ عَباسٍ رضي اللهُ عَنْهُما.
والإيمانُ
بالقَدَرِ أيْضًا: هُو أَصْلُ الطُّمَأنِينَةِ. لِأَنَّ العَبْدَ إذا
آمَنَ بالقَدَرِ إيمانًا صَحِيحًا، حَصَلَ لَه مِن الآثارِ الحَمِيدَةِ ما لَا
يَخْطُرُ بِبالِه. ولا يَكُونُ العَبْدُ مُؤمِنًا بالقَدَرِ إيمانًا صَحِيحًا،
إلَّا إذا عَرَفَه مِن خِلالِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهِي مَا كانَ
عَلَيهِ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابُه وَسَلَفُ هذه الأُمَّةِ فِي هذا
البابِ العَظِيمِ.
والإيمانُ
بالقضاءِ والقَدَرِ مَعْناه: تَقْدِيرُ اللهِ لِلكائِناتِ وَعِلْمُهُ
السابِقُ بِها، وَهُوَ أَرْبَعُ مَراتِب:
الْمَرْتَبَةُ
الأُولى: العِلْمُ، وَهُوَ عِلْمُ اللهِ بِكُلِّ شَيْءٍ
جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَعِلْمُهُ بِالأَشْياءِ قَبْلَ وُجُودِها، وَعِلْمُهُ
بِأَعْمالِ العِبادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، يَعْلَمُ سُبْحانَه مَا كانَ وَمَا
سَيَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كانَ كَيْفَ يَكُونُ.
الْمَرْتَبَةُ
الثانيةُ: الكِتابَةُ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعالَى كَتَبَ
مَقادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَكَتَبَ ما هُوَ كائِنٌ إلى
يَوْمِ القِيامَةِ.
الْمَرْتَبَةُ
الثالِثَةُ: الْمَشِيئَةُ، والْمُرادُ بِها مَشِيئَةُ
اللهِ الشامِلَةُ لِكُلِّ حادِثٍ، وَقُدْرَتُهُ التامَّةُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَا
شاءَ اللهُ كانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُن.
الْمَرْتَبَةُ
الرابِعَةُ: الخَلْقُ، أَيْ أَنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَمُوجِدُهُ، بِمَا في ذلكَ أَفْعالُ العِبادِ. وَأَنَّه الخالِقُ وَحْدَهُ وَمَا
سِواهُ مَخْلُوقٌ.
وَيَجِبُ مَعَ
الإيمانِ بِهذِهِ الْمَراتِبِ، أَنْ يَعْلَمَ العَبْدُ مَا يَلِي:
أوَّلًا:
أَنَّ ما أصابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَه، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ
لِيُصِيبَه.
ثانيًا:
لَا يَجُوزُ الاحْتِجاجُ بِالقَدَرِ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ تَرْكِ
الطاعةِ. كَمَا فَعَلَ إِبْلِيسُ اللَّعينُ، فإِنَّه لَمَّا
امْتَنَعَ عن السُّجُودِ، احْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلى فِعْلِ مَعْصِيَتِهِ فقال: ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ). بِخِلَافِ آدَمَ
وَحَوَّاءَ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا أَكَلَا مِن الشَّجَرَةِ، نَدِما وَتابَا
وأَنَابَا، فقالا: ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).
فَمَنْ احْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلى مَعْصِيَتِهِ فَقَدْ اقْتَدَى بِإِبْليسَ. وَمَنْ
اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ فَتابَ وَأصْلَحَ، فَقَدْ اقْتَدى بِأَبِيهِ آدَمَ عَلَيْهِ
السلامُ.
ثالِثًا:
يَجِبُ الحذَرُ مِن الخَوْضِ فِي القَدَرِ لِأَنَّه مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ، وَهُوَ
سِرُّ اللهِ، فَكَيْفَ تَخُوضُ في القَدَرِ، وَتُكْثِرُ
التَساؤُلاتِ، وَتُكْثِرُ قَوْلَ ( لِماذا ؟ )، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّه سِرُّ
اللهِ؟!.
فَإِنَّكَ مَهْمَا حاوَلْتَ وَتَفَكَّرْتَ وَخُضْتَ وَبَحَثْتَ
وَناقَشْتَ وَتَدَارَسْتَ مَعَ غَيْرِكَ، فَإِنَّك لَنْ تَصِلَ إِلى شَيْءٍ،
إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ واحِدٍ فَقَطْ:
أَلَا وَهُوَ الإِيمانُ والتَسْلِيمُ وَعَدَمُ
الخَوْضِ، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إذا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمْسِكُوا».
وَلَمَّا قالَ الصحابَةُ رضي اللهُ عنهم للنبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم: "
أَعُلِمَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النارِ؟ ". قال: ( نَعَمْ ). قالُوا: " فَفِيمَ العَمَلُ؟ ".
فقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( اعْمَلُوا
فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه ). هذا هُوَ جَوابُ رسولِ اللهِ صلى
اللهُ عَليه وسلم، الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوَى، والذي بَعَثهُ اللهُ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا، والذي اسْتَأْمَنَهُ اللهُ عَلَى وَحْيِهِ، فَهَلْ نَبْحَثُ عَنْ
جَوابٍ بَعْدَ ذلك؟. فالذي يَقُولُ: لِماذا نَعْمَلُ ما دامَ قَدْ عُلِمُ أَهْلُ
الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النارِ، يُقالُ له: اعْمَلْ وابْذُلِ السَّبَبَ، فَكُلٌّ
مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له.
والذي يَقُولُ:
ما دامَ كُلُّ شَيْءٍ مُقَدرا وَمَكْتُوبا، فَلِماذا نَرْفَعُ أَيْدِيَنا
وَنَسْأَلُ اللهَ. أَوْ لِماذا نَسْعَى في طَلَبِ الرِّزْقِ؟ وَغَيْرُ ذلك مِن
الأَسْئِلَةِ.
فَإِنَّه
يُرَدُّ عَلَيْهِ بِكَلامِ الصادِقِ الْمَصْدُوقِ: ( اعْمَلُوا
فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه ). واتْرُكِ الخَوْضَ في أَمْرِ
الغَيْبِ، وفي سِرِّ اللهِ الذي لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَإِنَّ الخَوْضَ
في القَدَرِ قَدْ يُفْضِي بِصاحِبِهِ إلى:
التَّكْذِيبِ،
أَوْ الاعْتِراضِ عَلَى اللهِ، أَوْ الـحـَيْـرَةِ وَعَدَمِ الإيمانِ الصحيحِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عِبادَ
اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ لِلإِيمانِ بِالقَدَرِ آثارًا
وَثَمَراتٍ:
أوَّلُها: الثباتُ واليَقِينُ ومَزيدُ الهِدايَةِ،
وَزِيادةُ الإيمانُ، قال تعالى: ( ومَنْ
يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه )، قال علقمةُ: " هُوَ الرجلُ، تُصِيبُه الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّها مِن
قَضاءِ اللهِ، فَيَرْضَى وَيُسَلِّم ".
ثانيًا: أَنَّ
العَبْدَ إذا آمَنَ بالقَدَرِ إيمانًا صحيحا، أَيْقَنَ بِأَنَّ كُلَّ قَضاءِ اللهِ
عَدْلٌ، ولِذلك كان مِن دعائِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلام: ( ماضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضاؤُكَ ).
ثالِثًا:
السَّلامَةُ مِن العُجْبِ بِالنَّفْسِ: فإنَّ العَبْدَ إذا حَصَلَتْ لَهْ
نِعْمَةٌ مِن الله، وعَرَفَ أن اللهَ هُوَ الذي قَدَّرَ له ذلك، وأَنَّه لَولا
اللهُ ما حَصَلَ له ذلك، سَلِمَ مِنْ العُجْبِ ورُؤْيَةِ النَّفْسِ، وخَضَعَ للهِ.
الرابِعُ:
السلامةُ مِن القَلَقِ، والضَّجَرِ عِنْدَ فَواتِ مَصالِحِ الدنيا، أوْ كذلكَ الْمُبالَغَةُ
في الفَرَحِ: قال تعالى: ( مَا أَصَابَ مِن
مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ
أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ ).
اللهمَّ حَبِّبْ إلينا الإيمانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنا،
وَكَرِّهْ إلَيْنا الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ، واجْعَلْنا مِن الراشِدِين، اللَّهُمَّ
أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا
دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي
إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ،
وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ
أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا
يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ
الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ
أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ ارفع البلاءَ عن الْمُستَضعفينَ مِن الْمؤمنين في
كُلِّ مكانٍ، اللهُمَّ احِقن دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ
احفظْ بَلادَنا مِن كيدِ الكائدينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ
أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك، وَاجْعلهم مِن أَنصارِ دِينِك، وارْزقْهُم
البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|