ما
تَبَقَّى من عَشرِ ذِي الحِجة، والتَّذْكِيرُ بِفَضْلِ الحَجِّ
والتَحْذيرُ
مِن تعريضِ النَّفْسِ للمشقَّةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ اللهِ: اتقُوا اللهَ تعالى،
وعَظِّمُوا شعائِرَه، فإنَّ ذلك مِن تَقْوَى القُلُوبِ.
واعلَمُوا أَنَّ
العبدَ مَهْما عَمِلَ مِن عَمَلٍ يَتَقَرَّب بِه إلى ربِّه، فإنه قليلٌ في حَقِّ
الله، ولكنَّ اللهَ الرحمنَ الرحيمَ، الكريمَ اللطيفَ، العَفُوَّ الحليمَ،
الغَفُورَ الشَّكُورَ، فَتَحَ لِعِبادِه مِن الأسبابِ ما يكونُ سَبَبًا لِلفَوْزِ
بِرحمتِهِ، والوُصُولِ إلى رضاه، فَجَعَلَ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثالِها إلى
سبعِمائةِ ضِعْفٍ إلى أَضعافٍ كثيرة، والسَّيِّئَةَ بِمِثْلِها.
وفَتَحَ بابَ
التوبةِ لِعبادِه مَهْما كَثُرَت ذُنُوبُهم وكَبُرَت، وجَعَلَ لَهم مِن
الأَزْمِنةِ الفاضِلةِ ما إِنِ استَغَلُّوها فِيما يُقَرِّبُهم إلى الله، تَعْدِلُ
في الفَضْلِ ما لا يكونُ في غيرِها. كُلُّ ذلك رَحمةً بِعبادِه الضعفاءِ الفقراءِ،
الذين مَهْما بَذَلُوا مِن عَمَلٍ فإنَّهم مُقَصِّرُونَ في جَنْبِ الله.
وأَنْتُم اليومَ يا عبادَ اللهِ، تَعِيُشُون
أَفْضَلَ أيامِ السنة، أَيامَ عَشْرِ ذي الحِجَّةِ، فلا تُفَرِّطُوا فيما بَقِي
مِنها، حتى لو حصلَ مِنكم التقصيرُ في أَوَّلِها، فإنَّ الفضلَ لا يزالُ باقيًا،
بَل إِنَّ الْمُتَبَقِّيَ أَفْضَلُها، والتي مِنْها: يَومُ
عَرَفَة.
فَهُوَ يَوْمُ
إِكمالِ الدِّينِ وإتمامِ النِّعمةِ: اختارَه اللهُ تعالى، لِتَكُونَ هذه
المناسبةُ العُظْمَى فيه، وما ذاكَ إلا لِشَرَفِهِ ومكانَتِه.
ومِن ذلك: أَنَّه
يَوْمٌ أقْسَمَ اللهُ بِه: والعظيمُ لا يُقْسِمُ إلا بِعَظِيم، فَهُو اليومُ الْمَشْهُودُ
فِي قَولِه تعالى: ( وشاهِدٍ ومَشْهُود
).
ومِن ذلك أَنَّ
صِيامَه يُكَفِّرُ سَنَتَيْن، وهذا إنَّما يُسْتَحَبُّ لِغَيرِ الحاجِّ،
أمّا الحاجُّ فلا يُسَنُّ لَه صِيامُ يَوْمِ عَرَفَة.
ومِن ذلك: أَنَّه
اليَوْمُ الذي أَخَذَ اللهُ فيه الْمِيثاقَ على ذُرِّيَّةِ آدمَ.
قال ابنُ عباسٍ
رضي اللهُ عنهُما: ( إِنَّ اللهَ أَخَذَ الْمِيثاقَ
مِن ظَهْرِ آدمَ بِنَعْمانَ- يَعْنِي عَرَفَةَ - وأَخْرَجَ
مِن صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَها، فَنَثَرَهُم بَينَ يَدَيْهِ كالذَّرِّ،
ثُمَّ كَلَّمَهُم قِبَلا، قال: ( أَلَسْتُ
بِرَبِّكُم؟ قالُوا بَلَى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القيامةِ إنَّا كُنَّا
عَن هذا غافِلِين، أَوْ تَقُولُوا إنَّما أشركَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنا
ذُرَّيَّةً مِن بَعْدِهِم أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُون ).
ومِن ذلك: أَنَّه
يَوْمُ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ والعِتْقِ مِن النارِ والْمُباهاةِ بِأَهْلِ الْمَوْقِف:
كما قال سولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( ما مِن
يَوْمٍ أَكْثَرُ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فيهِ عَبْدًا مِن النارِ مِن يَوْمِ
عَرِفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو ثم يُباهِي بِهِم الْمَلائِكةَ فَيَقُول: ما أرادَ هُؤلاء؟).
وهو أَحَدُ
أَيَّامِ الأَشْهُرِ الحُرُم. وفيه أَيْضًا رُكْنُ
الحَجِّ الأَعْظَمِ، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( الحَجُّ عَرَفَة ).
ولذلك صارَ هذا اليومُ العظيمُ أَحَدَ
أعيادِ الْمُسْلِمين، لِما سَمِعْتُم مِن الفضائِلِ والخَصائِص.
فإيَّاكَ
يا عبدَ اللهِ والتَفْرِيطَ فيه وفي صِيامِه واستِغْلالِه، فإنه يَوْمٌ واحِدٌ في
السنَةِ، إذا فاتَكَ فَقَدْ لا تُدْرِكُهُ في العامِ الْمُقْبِلِ.
عبادَ الله:
وبَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَوْمُ النَّحْر، يَوْمُ الحَجِّ الأكبرِ،
سُمِّيَ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِكَثْرَةِ ما يُراقُ فيه مِن الدِّماءِ تَعْظِيمًا
لله، وسُمِّيَ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ لأنَّ أَكْثَرَ أيامِ الحَجِّ تَقَعُ
فيه.
وفِيه صَلاةُ العِيد، وهي مِن آكَدِ الأعمالِ في هذِه العَشْرِ، فإيّاكَ
والتَّهاوُنَ فيها، فَإِن بَعْضَ الناسِ يَنْشَغِلُون عنها بِسَبَبِ انْشغالِهِم
بِتَجْهيزِ أَضاحِيهِم، فِلا يَشْهَدُونَها، ولا يُعْرُونَها اهتِمامَهَم، مَع
العِلمِ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَّدَ عَلَى حُضُورِها حتى الحُيَّضَ
لِيَشْهَدْنَ الخَيْرَ ودَعْوَةَ الْمُسلِمِين وتَحْصُلَ لَهُنَّ بَرَكَةُ هذا
اليوم. فَكَيْفَ بالرجالِ الكُمَّلِ القادِرين؟
واحْرِصْ أيُّها الْمُسلمُ على أَنْ لا
تَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ صلاةِ عِيدِ الأَضْحَى، لِتَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَتِكَ،
واعْلَم أَنَّه يُسَنُّ الاغتِسالُ والطِّيبُ والتَجَمُّلُ لِهذِه الصلاةِ، مَعَ
الإكثارِ مِن التكبيرِ والتهليلِ والتحميد.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ: لَقَدْ مَيَّزَّ اللهُ شَهْرَ ذِي الحِجَّةِ،
بِأَنْ خَصَّهُ بِشَعِيرَةِ عَظِيمَةٍ، ورُكْنٍ مِن أركانِ الإسلامِ الخَمْسَةِ،
ألا وهو الحَجُّ. فَهُوَ أحدُ أركانِ الإسلامِ ومبانِيهِ العِظامِ، وهو واجبٌ على
الفَوْرِ على كُلِّ مسلمٍ حُرٍّ بالِغٍ عاقلٍ مُستطيعٍ.
وَوَرَدَ في فَضْلِ الحَجِّ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ مِنْها:
قَوْلُه صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ حَجَّ فَلَمْ
يَرْفُث وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِن ذُنُوبِه كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّه
).
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَرادَ الحَجَّ،
أَنْ يَتَفَقَّهَ في أَحْكامِهِ، وَيَسْأَلَ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ، وأَنْ
يَصُونَهُ عَنْ الذُّنُوبِ والْمَعَاصِي.
وَيَنْبَغِي لِلحاجِّ أَنْ يَبْذُلَ
سُبُلَ الوِقايَةِ، والعَمَلِ بِالإرشاداتِ الصِّحِّيَّةِ حِفاظًا عَلى صِحَّتِهِ،
وأنْ يَتَوَقَّى حَرَّ الشَّمْسِ، وأَنْ لا يَتَساهَلَ في ذلك، وَلا يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِمَا يَضُرُّها بِحُجَّةِ زِيادَةِ الثَّوابِ، خُصُوصًا
في مَواطِنِ الزِّحامِ والتَّدافُعِ. فَإنَّ النبِيَّ صلى اللهُ عَليه وسلم نَهَى
عَنْ طَلَبِ الْمَشَقَّةِ فِي الإِتْيانِ بِالحَجِّ، فَقَدْ رَأَى رَجُلًا يُهادَى
بِيْنَ ابْنَيْهِ، فَقال: ( مَا بالُ هذا؟ )،
قالُوا: نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ ماشِيًا، فَقال: ( مُرُوهُ
فَلْيَرْكَبْ، فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هذا نَفْسَه ).
اللَّهُمَّ
يَسِّرْ لِلحَجِيجِ حَجَّهُمْ، واحْفَظْهُمْ وَرُدَّهُمْ إلى أهْلِيهِمْ
وَأَوْطانِهِمْ سالِمِينَ، غانِمِينَ الْمَغْفِرَةَ والرِّضْوانَ والعِتْقَ مِن
النارِ، اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنا وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا
وَفَقِّهْنا فِي دِينِكَ يَا ذَا الجَلَالِ والإِكْرامِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ
خَيْرَ أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ
أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا
مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ،
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ
الْمُسلمين، اللهُمَّ ارفعِ البلاءَ عن الْمُستضعفينَ من الْمؤمنين في كلِّ مكانٍ،
اللهُمَّ احِقن دماءَ الْمُسلِمِين، اللهُمَّ انصرْ عِبادَك الْمُؤمنين في كلِّ
مكانٍ يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ احفظْ بَلادَنا مِن كَيدِ الكَائدِينَ
وعُدْوانِ الْمُعْتَدِينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك،
وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصَارِ دِينِك، وَارْزقْهُم
البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .
وللمزيد من الخطب السابقة عن موسم عشر ذي الحجة تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=130