وأما
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، وَالحَدِيثُ عَنْ نَجاحِ مَوْسِمِ الحَجِّ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى،
واذكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ نِعَمَ اللهِ لا تُحْصَى،
وَاشْكُرُوهُ عَلَيْها. وَتَفكَّروا فِيهَا دائِمًا وَلَا تَنْسَوْها، فَإِنَّ
التَفَكُّرَ فِيها يَقُودُ إلى شُكْرِهَا، فإنَّ اللهَ تعالَى وَعَدَ الشاكِرينَ
بالزِّيادَةِ فقال: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
).
وأَرْكانُ
الشُّكْرِ يا عِبادَ اللهِ ثَلاثَةٌ:
أَوَّلُها:
شُكْرُ القَلْبِ، وَذلكَ بِالاعْتِرافِ بِأَنَّ
النِّعَمَ مِن اللهِ وَحْدَه.
الثانِي:
شُكْرُ اللهِ بِاللِّسانِ، وَذلكَ بالثَّناءِ
والحَمْدِ.
الثالثُ:
شُكْرُ الجَوارِحِ، وذلكَ بِالاسْتِعانَةِ بِها عَلى
الطَّاعَةِ.
ثُمَّ
اعْلَمُوا يا عِبادَ اللهِ: أَنَّ التَحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللهِ داعٍ
إِلَى شُكْرِها، ومُوجِبٌ إلَى تَحْبِيبِ القُلُوبِ إلَى مَنْ أَنْعَمَ بِها.
وِلِذلكَ أَمَرَ اللهُ بِهِ نَبِيَّه صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال تعَالَى:
( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ).
والأُمَّةُ داخِلَةٌ في هذا الأَمْرِ.
فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَمْتَثِلَ هذا الأَمْرَ، وَنَتَذَكَّرَهُ وَنَتَذاكَرَهُ،
فَنُذَكِّرُ أَنْفُسَنَا، وَأَهْلِينا وَشبابَنَا وَأَصْحابَنَا وَجُلَساءَنَا
عَلَى سَبِيلِ الدَّوامِ، فَإِنَّ ذلكَ مِنْ شُكْرِها.
والتَحَدُّثُ
بِنِعَمِ اللهِ: يَشْمَلُ النِّعَمَ الدِّينِيِّةَ والدُّنْيَوِيَّةَ،
الظَّاهِرَةَ والباطِنَةَ، الخاصَّةَ والعامَّةَ. فالهِدَايَةُ لِلإِسْلامِ
أَعْظَمُ نِعْمَةِ عَلَى الإطْلاقِ. وَكَوْنُكُ تَعِيشُ في بَلَدٍ مُسْلِمٍ،
وَبَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَهِيَ
تابِعَةٌ لِلنِّعْمَةِ الأُولَى، نِعْمَةِ الإسْلامِ.
وَكَذلكَ: نِعْمَةُ العافِيَةِ، والأَمْنِ،
والتَّوْفِيقِ لِعَمَلِ الطاعاتِ، واجْتِنابِ الْمعاصِي. وَنِعْمَةُ الْمَأْكَلِ
والْمَلْبَسِ.
واحْذَرْ
أَيُّها الْمسلِمُ مِن إِظْهارِ الضَجَّرِ والتَأَفُّفِ والتَسَخُّطِ،
فَإِنَّهُ خُلُقٌ سَيِّءٌ وَعَلامَةٌ عَلى كُفْرِ النِّعَمِ، خُصُوصًا مِمَّنْ
حَالُهُمْ الدُّنْيَوِيَّةُ حَسَنَةٌ، وَهذا مَعَ الأَسَفِ كَثِيرٌ في
مَجَالِسِنَا اليَوْمَ، وَهُوَ مِنْ أسْبابِ زَوالِ النِّعَمِ.
وَلِذلكَ
لَمَّا جاءَ إبْراهِيمُ عليه السلامُ مَكَّةَ يَتَفَقَّدُ وَلَدَهُ وَأَهْلَهُ،
فَوَجَدَ زَوْجَةَ إسْماعِيلَ، فَسَأَلَها عَنْ إِسْماعِيلَ؟ قالت: ( خَرَجَ يَبْتَغِي لَنا، ثُمَّ سَأَلَها عَنْ عَيْشِهِمْ
وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ
إِلَيْهِ، قَال: فَإِذا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السلامَ، وَقُولِي
لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بابِهِ، فَلَمَّا جاءَ إسماعيلُ وأَخْبَرَتْهُ الخَبَرَ،
قال: فَهَلْ أَوْصاكِ بِشَيْءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ
السلامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بابِكَ، قال: ذاكَ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي
أَنْ أُفارِقَكِ، فَطَلَّقَها.
وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى، ثُمَّ أَتاهُمْ إبراهيمُ عَلَيْهِ السلامُ،
فَسَأَلَ عَنْ إسْماعِيلَ، قالت: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قال: كَيْفَ أَنْتُمْ؟
وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، قالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ،
وَأَثْنَتْ عَلَى اللهِ. قَاَل: فَإِذا جاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ
السلامَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بابِهِ، فَلَمَّا جاءَ إسماعيلُ
وأَخْبَرَتُهُ الخَبَرَ، قالَ: فَأَوْصاكِ بِشَيْءٍ؟، قالَت: نَعَمْ، هُوَ
يَقْرَأُ عَلَيْكَ السلامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بابِكَ، قال:
ذاكَ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ ).
فَانْظُرُوا
يا عِبادَ اللهِ كَيْفَ سُلِبَتْ النِّعْمَةُ مِن الزَّوْجَةِ الأُولَى بِسَبَبِ
التَّسَخُّطِ والضَّجَرِ. وَثَبَتَتْ النِّعْمَةُ لِلزَّوْجَةِ الثانِيَةِ،
بِسَبَبِ التَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللهِ، والرِّضا والقَناعَةِ والحَمْدِ
والشَّكْرِ في السَّرَّاءِ والضَرَّاءِ، وَصِيانَةِ زَوْجِها في غَيْبَتِهِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ:
عِبادَ اللهِ: إِنَّ مِن أَعْظَمِ
النِّعَمِ التي يَنْبَغِي التَحَدُّثُ عَنْها، مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا في
هَذِهِ البِلادِ الْمُبارَكَةِ مِن نِعَمٍ كَثِيرةٍ يَعْجِزُ اللِّسانُ عَنْ
تَعْدَادِ عُشْرِ مِعْشارِها. فَإِنَّنا نَعِيشُ في بِلادِ الإسلامِ، بِلادِ
التوحيدِ والسَّنَّةِ، البلَدِ الوَحِيدِ الذي يَصْدَعُ عَلى الْمَلاءِ في كُلِّ
أَنحاءِ العالَمِ، أَنَّه يَدعُو إلى التوحيدِ والسُّنَّةِ، ويُحاربُ الشِّرْكَ
والبِدعَ، ويُحَكِّمُ الشَّرِيعَةَ. تَحْتَ قِيادَةٍ حَكِيمَةٍ، قَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَيْنا بِنِعْمَةِ الإسلامِ والأَمْنِ، واجْتِماعِ الكَلِمَةِ. يَجِبُ عَلَيْنا
جَمِيعًا أَنْ نَرْعَى هذه النِّعْمَةَ ونَتَعاوَنَ عَلى شُكْرِها وحِفْظِها.
وَمِنْ هَذِهِ النِّعَمِ: نِعْمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَها
وَيُدِيمَها، أَلَا وَهِيَ نِعْمَةُ خِدْمَةِ الحَرَمِينِ وَقاصِدِيهما، وَمَا
مَنَّ اللهُ بِهِ مِنْ نَجاحاتٍ مُتَتَالِيةٍ في كُلِّ عامٍ، خُصُوصًا هذا العامَ،
والذي لَمْ يُسْبَقْ لَهُ مَثِيلٌ وَللهِ الحَمْدُ، بِفَضْلِ اللهِ تَعالى، ثُمَّ
بِمَا تَمَّ بَذْلُهُ وَتَسْخِيرُهُ تَحْتَ ظِلِّ قِيادَةِ وَلِيِّ أَمْرِنَا
وَوَلِيِّ عَهْدِهِ أَيَّدَهُمَا اللهُ، وَرِعايَتِهِما وَعِنايَتِهِما
التَّامَّةِ، فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْنَا الشُّكْرَ والثَّناءَ والدُّعاءَ الصادِقَ.
يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( لا
يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لا يَشْكُرُ الناسَ ).
أيْ لا يَقْبَلُ اللهُ شُكْرًا مِنْ عَبْدِهِ الذي أحْسَنَ إلَيْهِ، إذا كانَ هذا
العَبْدُ يَنْسَى الْمَعْرُوفَ الذي وَصَلَ إلَيْهِ مِن الناسِ. ومِن الْمَعْلُومِ
أَنَّ الذي لا يَنْفَعُ فِيهِ الْمَعْروفُ، لابُدُّ وأَنْ يَكْفُرَ النِّعَمَ،
شَعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعُرْ.
وَمِنْ
الْمُهِمِّ أَيْضًا: أَنْ يَتَذَكَّرَ الْمُسْلِمُ
أَنَّ مِنْ أَسْبابِ نَجَاحِ الحجِّ هذهِ السَّنَةِ وَتَمَيُّزِهِ، عَنْ غَيْرِهِ
مِن الأَعْوامِ، الالْتِزامَ بِاسْتِخْراجِ التَّصْرِيحِ، وَتَطبِيقَ الأَنْظِمَةِ
والتَّعْلِيماتِ، التي ما وُضِعَتْ إلَّا مِنْ أَجْلِ مَصْلَحَتِهِمْ والْمَصْلَحَةِ
العامَّةِ. مِمَّا يَحُثُّ الحُجَّاجَ في الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أَنْ يَهْتَمُّوا
بِذلكَ.
اللَّهُمَّ
أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللَّهُمَّ أَوْزِعْنا
أَنْ نَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا وَعَلَى والِدِيْنا، وَأَنْ
نَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاه، اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ
نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ
سَخَطِكَ، اللَّهُمَّ احفظْنا بالإسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإسلامِ قاعدِين
واحفظْنا بالإسلامِ راقدِين ولا تُشْمِتْ بنا أعداءَ ولا حاسدينَ، اللهُمَّ أصلحْ
أحوالَ المسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ
وَالْمُسْلِمِينَ وَأَذِلَ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ
الدِّينِ يا قويُّ يا عزيزُ، اللَّهُمَّ احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ
المعتدين، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك، واجعلهم
من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ،
اللهُمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم
والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ، (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119