الحَثّ
على التَّكَسُّبِ والتَّحْذِيرُ مِنْ ظاهِرَةِ التَّسَوُّلِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الْمُسلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ
تَعالَى، واعْلَمُوا أَنَّ مَحاسِنَ الأخلاقِ الظاهِرَةِ والباطِنَةِ التي أَمَرَ
اللهُ بِها، تَتَطَلَّبُ مِن العَبْدِ مُجاهَدَةً وَبَذْلًا لِلْأَسبابِ، كَيْ
يَحْظَى بِها وَبِثَوابِها مِن اللهِ.
وَمِنْ
ذلكَ مَا وَرَدَ فِي الصحيحينِ عَن أَبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنه:
أَنَّ نَاسًا مِن الأنصارِ سَأَلُوا رسولَ اللهِ صلي اللهُ عليهِ وسلم،
فَأَعطاهُمْ، ثُمَّ سَأَلَوهُ فَأَعْطاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقالَ
لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنَفَقَ بِيَدَيْهِ: ( مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ
يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ
يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ, وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ
مِنْ الصَّبْرِ ). فَهذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّه كانَ مِنْ خُلُقِ
الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أَنَّه لَا يُسْأَلُ شَيْئًا يَجِدُهُ إلَّا أعطاه،
بَلْ كانَ يُعْطِي عَطاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الفَقْرَ، فَهُوَ أَكْرَمُ الناسِ
وأَشْجَعُ الناسِ. فَلَمَّا نَفِدَ ما فِي يَدِهِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّه ما مِنْ
خَيْرٍ يَكُونُ عِنْدَهُ فَلَنْ يَدَّخِرَهُ عَنْهُمْ.
ثُمَّ
حَثَّ النبيُّ صلي اللهُ عليه وسلم عَلَى بَذْلِ أَسْبابِ الغِنَى والعَفافِ
والصبْرِ، فقال: ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ
)، وَهَذا يَشْمَلُ أُمُورًا ثَلَاثَةً:
أَوَّلُها: أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ
الرِّزْقِ الحَرامِ مَهْمَا بَلَغَتْ حاجَتُهُ. وَدَائِمًا
يُذَكِّر نَفْسَهُ بِأَنَّ في الرِّزْقِ الحَلَالِ وَلَوْ كان قَلِيلًا، غُنْيَةً
عَنْ الحَرامِ.
ثانياً: أَنْ
لَا يُذِلَّ نَفْسَه لِلْمَخْلُوقِينَ، فَيُكْثِرَ مِنْ سُؤَالِهِمْ وَطَلَبِ
مُساعَدَاتِهِمْ والإلحاحِ عَلَيْهِمْ، سَوَاءً كانَ فِي مالٍ أَوْ غَيْرِهِ،
لِأَنَّ ذلكَ يُورِثُهُ الذُّلَّ وَكَراهَةَ الخَلْقِ لَهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَسْتَغْنِيَ بِاللهِ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا
إذا كانَ السُّؤالُ لِغَيْرِ حاجَةٍ، وإنَّمَا مِهْنَةً أَوْ تَكَثُّرًا،
فَالأَمْرُ خَطِيرٌ جِدًا، وَهَذا مَوْجُودٌ مَعَ الأَسَفِ، يَنْبَغِي تَكاتُفُ الْمُجْتَمَعِ
مَعَ بَعْضِهِ وَمَعَ الجِهاتِ الْمَسْؤُولَةِ، وَبَذْلُ الجُهْدِ مِنْ أَجْلِ
مَنْعِهِ. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ
سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا, فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا,
فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ ). وَقالَ أيْضًا: ( مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ, حَتَّى يَأْتِيَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ ).
ثالثاً: أَنْ
يَقُومَ العَبْدُ بِبَذْلِ أَسْبابِ التَّكَسُّبِ الْمُباحِ، مَع الاِستِعانَةِ
بِاللهِ وَعَدَمِ اليَأْسِ مِنْ حُصُولِ الكَسْبِ والرِّزْقِ الحَلَالِ،
قال رسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( لَأَنْ
يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ
فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ
النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ). وَهَذا الأَمْرُ مِن النبيِّ صلى
اللهُ عَلَيْهِ وسلم عامٌّ، وَلَيْسَ خاصًّا بالاِحْتِطابِ.
فَمَا
أَعْظَمَ عِزَّةَ النَّفْسِ والاِسْتِغْناءِ بِاللهِ، وَبَذْلِ الأسبابِ، فَإِنَّ
مَنْ يَسْتَغْنِ بِمَا عِنْدَ اللهِ عَمَّا فِي أَيْدِي الناسِ، يُغْنِهِ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَابُدَّ أَنْ
نَعْلَمَ بِأَنَّ القادِرَ عَلى العَمَلِ والاكْتِسابِ، لا تَحِلُّ لَهُ
الصَّدَقَةُ، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ
سَوِيِّ )، أي: قَوِيٍّ قادِرٍ عَلَى العَمَلِ. وَيَجِبُ عَلَى الْمسلمِ
أنْ لَا يَدْفَعَ زكاتَه إلَّا لِمَنْ تَحِلُّ لَهُ, وأَنْ يَبْذُلَ جُهْدَهُ في
تَحَرِّي الْمُحْتاجِينَ للزكاةِ والصَّدَقَةِ، الذينَ يَمْنَعُهُمْ الحَياءُ
والعِفَّةُ عَنْ سُؤالِ الناسِ.
ثانِيًا: قَوْلُهُ
صلى اللهُ عليه وسلم في الحديثِ: ( وَمَنْ
يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ )، أَيْ: مَنْ يَتَجَنَّب الأسبابَ التي
تُوقِعُهُ فِي الفاحِشَةِ، وَيَسْتَعِفُّ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مِن
النِّساءِ والشَّهَواتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيُجاهِدُ نَفْسَهُ في ذلكَ، يُعِفُّهُ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَحْمِيهِ وَيَحْمِي أَهْلَه أَيْضًا.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ:
عِبادَ الله:
وَمِمَّا وَرَدَ في الحديثِ الذي سَمِعْتُمُوهُ أَيْضًا: ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ )، أَيْ
يُعْطِيهِ اللهُ الصَّبْرَ. فَإِذَا تَصَبَّرْتَ، وَحَبَسْتَ نَفْسَكَ عَلَى
الطاعةِ، وَمَنَعْتَها مِمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكَ، وَصَبَرْتَ عَلَى مَا
عِنْدَكَ مِن الحاجَةِ وَالفَقْرِ، وَلَمْ تُلِحَّ عَلَى الناسِ بِالسُّؤالِ،
فَإِنَّ اللهَ تَعالَى يُصَبِّرُكَ وَيُعِينُكَ عَلَى الصَّبْرِ، وَيَقْذِفُ في
قَلْبِكَ الرِّضَى وَعَدَمَ الجَزَعِ.
ثُمَّ قال النبيُّ صلي اللهُ عليه وسلم: ( وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطاءً خَيْرًا وَأْوْسَعَ مِن
الصَّبْرِ ). لِأَنَّ الطاعةَ تَحْتاجُ إلى صَبْرٍ، والشَّهَواتِ يَحْتاجُ
الْمُؤْمِنُ في تَرْكِها إلى الصبْرِ، والأَقْدارَ الْمُؤْلِمَةَ مِنْ مَرَضٍ
وَفَقْرٍ وَظُلْمٍ تَحْتاجُ إلى الصبْرِ. فَإِذا كان الإنسانُ قَدْ مَنَّ اللهُ
عليه بالصَّبْرِ، فَهذا خَيْرُ ما يُعْطاهُ العَبْدُ، وَأَوْسَعُ ما يُعْطاه.
فَنَسْأَلُ
اللهُ أَنْ يَجْعَلَنا مِمَّن إذا أُعْطِيَ شَكَرَ، وإذا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وإذا
أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ، اللَّهُمَّ استَعْمِلنا في طَاعَتِك، وثَبِّتْنا على
دَينِك، وارزقْنَا الإخلاصَ في أقوالِنا وأعمالِنا، وخَلِّصْنا مِن حقوقِ خلقِك،
وباركْ لنا في الحلالِ مِن رِزقِك وتوفَّنَا مُسلِمِين وألْحِقْنا بالصَّالِـحينَ،
اللهُمَّ احفظْنا بالإِسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإِسلامِ قاعدِين واحفظْنا
بالإِسلامِ راقدِين ولا تُشْمِتْ بِنا أَعداءَ ولا حَاسِدِينَ، اللهُمَّ أصلحْ
أحوالَ الْمُسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ الْمُسلمين على
كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ
الْمُسلِمِين، واجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهُم يداً واحدةً
وقوَّةً واحدةً على مَنْ سِواهُم، ولا تجعلْ لأعدائِهم مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا
عزيزُ، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ
وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ،
اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ
يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِمَّنْ يكيدُ
لها في داخِلِها وَخَارِجِهَا، وأَعِذْهَا مِن شرِّ الأشرارِ وكَيْدِ الفُجَّارِ،
اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك، واجعلهم مِن أنصارِ
دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ
اغفرْ للمُسلِمينَ والْمُسلِماتِ والْمُؤمِنينَ والْمُؤمِناتِ الأحياءِ منهم
والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ، (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|