الحَثُّ عَلَى السَّماحَةِ في البَيْعِ والتَّحْذِيرُ
مِن الجَشَعِ في رَفْعِ الإيجارات والْمَكاسِبِ العَقارِيَّةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتقُوا اللهَ تَعالَى،
وابْذُلُوا أَسْبابَ الفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ، وَكُونُوا مَفاتِيحَ لِلْخَيْرِ،
مَغالِيقَ لِلشَّرِّ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمُسامَحَةِ والسَّماحَةِ، فَإِنَّ اللهَ
يُحِبُّ ذلكَ مِنْ عِبادِهِ، وَيَرْحَمُهُمْ بِسَبَبِها. فَمَنْ عَفَا وَتَجاوَزَ
وَسامَحَ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ يُقابِلُهُ بِجِنْسِ عَمَلِهِ،
فَيَعْفُو عَنه، وَيَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِ وَيُسامِحُهُ. لِأَنَّ اللهَ
أَحَقُّ بِذلكَ مِنْه، قال رسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( أُتـِيَ اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبادِهِ، آتاهُ اللهُ مالًا،
فَقالَ له: مَاذا عَمِلْتَ في الدنيا؟ فقال: يارَبِّ آتَيْتَنِي مالَكَ، فَكُنْتُ
أُبايِعُ الناسَ، وَكانَ مِنْ خُلُقِي الجَوازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ،
وأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقالَ اللهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذلكَ مِنْكَ، تَجاوَزُوا
عَنْ عَبْدِي ). وَفِي لَفْظٍ قال:
( أُنْظِرُ
الْمُوسِرَ، وأَتَجاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ ).
فَهَذا التاجِرُ الطَّيِّبُ السَّمْحُ
القَنُوعُ، قال: بِأَنَّهُ يُعامِلُ الناسَ بِالبُيُوعِ والْمُدايَنَةِ، وكانَ
مِنْ خُلُقِهِ الجَوازُ، أَي: السَمَاحَةُ والتَّيْسِيرُ والتَّسْهِيلُ، وَيُـمْهِلُ
الشَّخْصَ الْمُوسِرَ القادِرَ، وَيَقْبَلُ مِنْهُ ما جاءَ مِنْهُ وَلَوْ كانَ فيه
نَقْصٌ. وَيَتْرُكُ الْمُعْسِرَ إلى أَنْ يَجِدَ، أَوْ يَتَجاوَزُ عَنْه، لِأَنَّ
إنْظارَ الْمُعْسِرِ وإِمْهالَهُ واجِبٌ وَلَيْسَ مُسْتَحَبًّا. وإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ
هُوَ التَجاوُزُ عَنْهُ وإِعْفاؤُهُ. لِقوْلِهِ تَعالى: ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ). وَهذا يَدُلُّ
عَلَى فَضْلِ الإحْسانِ إلى الناسِ، والعَفْوِ عَنْهُمْ، والتَّجاوُزِ عَنْ
مُعْسِرِهِمْ. وأَنَّ ذلكَ مِنْ أَسْبابِ النَّجاةِ يَوْمَ القِيامَةِ. قال رسولُ
اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( رَحِمَ اللهُ
عَبْدًا، سَمْحًا إذا باعَ، سَمْحًا إذا اشْتَرَى، سَمْحًا إذا قَضَى، سَمْحًا إذا
اقْتَضَى )، وَقال أيْضًا: ( مَنْ نَفَّسَ
عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدنيا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ
كُرَبِ يَوْمِ القِيامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ
في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ، واللهُ في
عَوْنِ العَبْدِ، ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ )، وَهَذا يَدُلُّ
عَلى أَنَّ ثَوابَ هذا العَمَلِ، يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ في دُنْياهُ وأُخْراه.
وَيَدْخُلُ في
السَّماحَةِ يا عِبادَ اللهِ: التَّخفيفُ في
أَجارِ العَقارِ، وَمُراعاةُ أَحْوالِ الْمُسْتَأْجِرِين بِالتَّيْسِيرِ
عَلَيْهِمْ واحْتِسابِ الأَجْرِ في التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ والتَّحَلِّي
بِالسَّماحَةِ في التَّعامُلِ مَعَهُمْ. لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ
العَلَاقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قائِمَةً عَلَى الأُخُوَّةِ والْمَحَبَّةِ
والرَّحْمَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ في الأَحادِيثِ، وَلَقَوْلِهِ عَليهِ
الصلاةُ والسلامُ: ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى
يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُ لِنَفْسِهِ )، وَلِقَوْلِهِ أَيْضًا: ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَحْمنُ، اِرْحَمُوا مَنْ في
الأَرْضِ، يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السَّماءِ ). خُصُوصًا
مَعَ وُجُودِ مَا يَحُثُّ وَيُشَجِّعُ عَلى ذلك، أَلَا وَهُوَ الأَنْظِمَةِ
السَّامِيَةِ التي صَدَرَتْ بِتَوْجِيهاتِ وَلِيِّ العَهْدِ حَفِظَهُ اللهُ في
ذلك. وَما ذاكَ إلَّا لِتَحْقِيقِ التَّوازُنِ في القِطاعِ العَقارِ، وَتَسْهِيلُ
السَّكَنِ لِلمُواطِنِ والْمُقِيمِ، والتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ.
فَيَنْبَغِي
لِمُلَّاكِ العَقارِ أَنْ يَتَّعِظُوا
بِما تَقَدَّمَ مِن النُّصُوصِ، وأَنْ يَحْذَرُوا مِن الطَّمَعِ والجَشَعِ الْمَذْمُومِ
شَرْعًا، وَلِأَنَّ ذلك قَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ ضَرَرٌ وَمَشَقَّةٌ،
وَقَدْ قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ
ضَارُّ أَضَرَّ اللهُ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ ). وَلَا يَعْنِي ذلك أَنْ
يَتَساهَلَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ يُماطِلُ في دَفْعِ الأُجْرَةِ، فَإِنَّ بَعِضَ
الْمُسْتَأْجِرينَ لا يُبَالِي مَعَ قُدْرَتِهِ، أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْ ادِّخارِ
الأجْرَةِ أَثناءَ العامِ، لَكِنَّه يُنْفِقُ فِيما لا فائِدَةَ فيهِ أَوْ لا
حاجَةَ لَهُ بِهِ، فَإذا جاءَ وَقْتُ الدَّفْعَ ماطَلَ أَوْ عَجِزَ، لِأَنّ
الأُجْرَةَ حَقٌّ في ذِمَّتِهِ، لابُدَّ مِنْ وفائِهِ. قال رسول اللهِ صلى
الله عليه وسلم: ( لـَيُّ الواجِدِ ظُلْمٌ، يُحِلُّ
عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَه )، واللَّيُّ: هُوَ الْمُماطَلَةُ والتَأَخُّرُ.
والواجِدُ: هُوَ الغَنِيُّ أَوْ القادِرُ على الوَفاءِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ
اللهِ: إنَّ ما وَرَدَ في الأَحادِيثِ مِنْ فَضْلِ
السَّماحةِ والعَفْوِ، فَإِنَّها لا تُقْبَلُ مِنْ العَبْدِ إلَّا مَعَ
التَّوْحِيدِ والإيمانِ بِاللهِ وَرسُولِهِ، لِأَنَّ الإسْلامَ هُوَ البابُ
لِقَبُولِ العَمَلِ الصالِحِ وَلَوْ كانَ قَلِيلًا، قال تعالى: ( وَمَن يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ ). ومِنْ خَصائِصِ الإسلامِ:
أَنَّ العَمَلَ الصالحَ الْمُسْتَوفِيَ لِلشُّروطِ لا
يُقْبَلُ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، حَتى لَوْ كانَ قَلِيلاً. بِخِلافِ الكافِرِ فإنَّه لَو بَلَغَت أعمالُهُ
أمثالَ الجِبال، فإنَها لا تُقْبَلُ مِنْه، مَا لَمْ يَدْخُلْ إلَيْها مِنْ بابِ
الإسلامِ. وَلِذلكَ غَفَرَ اللهُ تَعَالَى لِلرَّجُلِ الذي أزالَ غُصْنَ شَجَرٍ
عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِين كَيْ لا يُؤْذِيَهُم، وغَفَرَ لِلمَرأَةِ البَغِيِّ
التي خُتِمَ لها بِسَقْيِ كَلْبٍ كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ. وأمَّا الكُفارُ فقدْ
أخْبَرَ اللهُ تعالى أنَّه لا يُقْبَلُ مِنْهُم مِلءُ الأرضِ ذهبًا. وقالَ
سُبحانَه في شَأْنِ الْمُنافقين: ( وَمَا مَنَعَهُمْ
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا
يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ).
اللهُمَّ
احفظْنا بالإِسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإِسلامِ قاعدِين واحفظْنا بالإِسلامِ
راقدِين ولا تُشْمِتْ بِنا أَعداءَ ولا حَاسِدِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ
الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ،
وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ،
اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون
عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل
الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ
يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ
الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك،
وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا
ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
).
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119