الحَثُّ عَلَى البَدَاءَةُ بِالخَيْرِ
وَبيانُ واجِبِ المُسْلِمِ تُجاهَ المَلْهُوفِ
والمَنْكُوبِين
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ:
اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَراقِبُوهُ، وابْذُلُوا أَسْبابَ الفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ،
واعْلَمُوا أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ حُقُوقًا، لا يَلِيقُ بِـمَنْ آمَنَ بِاللهِ
واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَغْفَلَ عَنْها، مِنْها: ما رَواه مُسْلِمٌ، عَنْ جَرِيرِ
بْنِ عَبْدِاللهِ البَجَلِيِّ رضيَ اللهُ عَنْه قال: ( كُنَّا
عِنْدَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهارِ، فَجاءَهُ قَوْمٌ
حُفاةٌ عُراةٌ، مُجْتابِي النِّمارِ – أيْ أَكْسِيَتُهُمْ مُقَطَّعَةٌ -،
مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ. عامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرٍ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرٍ،
فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنْ
الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلالًا فَأَذَّنَ وأقامَ، فَصَلَّى،
ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا ... الآيةُ }. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }،
ثُمَّ قال: " تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينارِهِ،
مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صاعِ بُرِّهِ، مِنْ صاعِ تَمْرِهِ "،
- أيْ لِتَصَدَّقَ كُلُّ أَحَدٍ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَقْدٍ أَوْ طَعامٍ
أَوْ لِباسٍ - حتى قال: " وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ "، فَجاءَ رَجُلٌ مِن
الأَنْصارِ بِصُرَّةٍ كادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْها. بَلْ قَدْ عَجِزَتْ. قال:
ثُمَّ تَتَابَعَ الناسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ
مِنْ طَعامٍ وَثِيابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم
يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّه مُذْهَبَةٌ، فَقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم:
( مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ
أَجْرُها، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِها بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كان عَلَيْهِ
وِزْرُها، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أوزارِهِمْ شَيْءٌ ).
فَفِي هذا
الحَدِيثِ يا عِبادَ اللهِ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ في شَرْحِ هذا
الحَدِيثِ نَذْكُرُ أَهَمَّها:
أَوَّلُها: أَنَّه
يُشْرَعُ لِوَلِيِّ الأَمْرِ أَنْ يَحُثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وإِغاثَةِ الْمَلْهُوفِ
وأَهْلِ الفَاقَةِ، لِأَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا رَأى هَؤُلاءِ القَوْمَ الحــُفاةَ العُراةَ جاؤُوا يَشْكُونَ شِدَّةَ
الفاقَةِ، وَظَهَرَ مِنْ حالِهِمْ ما يَدُلُّ عَلَى ذلكَ، جَمَعَ الناسَ، وَلمْ
يَكُنْ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَحَمِدَ اللهَ وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ حَثَّ الناسَ
عَلى التَصَدُّقِ عَلَى هَؤلاءِ، وَهذا العَمَلُ مَشْرُوعٌ عَبْرَ أيِّ وَسِيلَةٍ
يَحْصُلُ بِها المَقْصُودُ، سَواءً كانَ عَبْرَ الْمِنْبَرِ، أَوْ الْمُحاضَراتِ
والدُّرُوسِ، أَوْ وَسائِلِ الإِعْلامِ الْمَرْئِيَّةِ والْمَسْمُوعَةِ والْمَقْرُوءَةِ.
وَكَذلكَ هُوَ عامٌّ في كُلِّ أَمْرٍ مُهِمٍّ تَحْتاجُهُ الأُمَّةُ.
كَمَا فَعَلَتْ قِيادَتُنَا، بِتَوْجِيهِ
خادِمِ الحَرَمَيْنِ وَوَلِيِّ عَهْدِه حَفِظَهُمْ اللهُ،
بِتَسْيِيرِ جِسْرٍ جَوِّيٍّ وَتَقْدِيمِ المُساعَدَاتِ الصِّحِّيَّةِ
والغِذائِيَّةِ والإِيوائِيَّةِ، لِتَخْفِيفِ آثارِ الزِّلْزالِ في سُورِيَّةَ
وَتُرْكِيا. وَتَنْظِيمِ حَمْلَةٍ شَعْبِيَّةٍ عَبْرَ الْمَنَصَّاتِ الْمُعْتَمَدَةِ،
لِيَشْتَركَ الْمُسْلِمُونَ في هذه الحَمْلَةِ الْمُبارَكَةِ، كُلٌّ بِقَدْرِ
اسْتِطاعَتِهِ، نَسْألُ اللهَ أَنْ يَجْزِيَهُمْ خَيْرًا, وأَنْ يَلْطُفَ
بِعِبادِهِ الْمُصابِينَ والْمُتَضَرِّرِينَ، وأَنْ يَغْفِرَ لِمَنْ ماتَ مِنْ
إِخْوانِنا.
وَيُسْتَفادُ مِن الحَدِيثِ:
كَمَالُ رَحْمَةِ النبيِّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ، وَشِدَّةُ رَأْفَتِهِ بِهِمْ، لِمَا حَصَلَ مِنْ
تَمَعُّرِ وَجْهِهِ وَتَغَيُّرِهِ، عِنْدَمَا رَأَى حالَ هَؤُلاءِ القَوْمِ.
وكَذَلكَ: فَرَحِهِ وَاسْتِنارَةِ وَجْهِهِ، لَمَّا رَأَى الصَّحابَةَ تَتَابَعُوا
في الصَّدَقَةِ، والحِرْصِ عَلَى رَفْعِ مُعاناةِ إِخْوانِهِمْ، قال تعالى: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
).
وَيُسْتَفادُ مِن
الحَدِيثِ: أَنَّه في بَعْضِ الأَحْيانِ
تَكُونُ صَدَقَةُ العَلانِيَةِ أَفْضَلَ مِن صَدَقةِ السِّرِّ، كَمَا
وَقَعَ في هذا الحَدِيثِ، فَإنَّ هذا الرَّجُلَ مِن الأَنْصارِ لَمَّا بادَرَ
بِالصَّدَقَةِ، تَتَابَعَ الصَّحابَةُ وَتَشَجَّعُوا في ذلكَ، فَهَنِيئًا لَهُ
رضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَإنَّ لَهُ أُجُورَ تِلْكَ الصَّدَقاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِ الصحابَةِ شَيْءٌ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ
اللهِ: وَمِنْ فَوائِدِ هذا الحَدِيثِ: أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الخَيْرِ كَفاعِلِهِ، والدَّالَّ
عَلَى الشَّرِّ كَصانِعِهِ، والعِياذُ بِاللهِ، لِقَوْلِهِ: ( مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُها،
وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِها بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْءٌ ) ، أيْ مَنْ أتَى بِعَمَل أوْ طَريقَةِ مَحْمُودَةٍ مَرْضِيَّةٍ،
قَدْ دَلَّتْ عَلى مَشْرُوعِيَّتِها الأَدِلَّةُ، واقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ فِيها.
سَواءً في الصَّدَقَةِ، أَوْ الذِّكْرِ أَوْ العِلْمِ، فَلَهُ أَجْرُهُ وأَجْرُ
مَنْ عَمِلَ بِه، وَسَوْفَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ، ويَرَى مِن الثَّوابِ
وَكَثْرَةِ الأُجُورِ ما لا يَخْطُرُ بِبالِهِ. ( وَمَنْ
سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كان عَلَيْهِ وِزْرُها، وَوِزْرُ مَنْ
عَمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوزارِهِمْ شَيْءٌ
)، أيْ مَنْ أَتَى بِسَيِّئَةٍ سَواءً كانَتْ مِن البِدَعِ أَوْ المَعاصِي،
واقْتَدَى بِه غَيْرُه، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وأَوْزارُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ أَوْ
أَخَذَ بِقَوْلِهِ، وَسَوْفَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَيَرَى ذُنُوبًا كَثِيرَةً
مَسَجَّلَةً عَلَيْهِ، لَمْ يَعْمَلْها، وَلَكِنْ عَمِلَ بِها غَيْرُهُ، بِسَبَبِ
عَمَلِهِ بِها أَوْ نَشْرِهِ لَهَا. فَلْيَحْذَرِ المُؤْمِنُ غايَةَ الحَذَرِ مِن
ذلك، خُصُوصًا في هذا الزَّمانِ الذي سَهُلَ فِيهِ نَشْرُ الشَّرِّ وَالْمَعْلُومَةِ
الخاطِئَةِ، فَإنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَقُولُ قَوْلًا، أَوْ يَعْمَلُ عَمَلًا، أَوْ
يَنْشَرُ ما يَسْخِطُ اللهَ، فَيَصِلُ إلى الْمَلايِينِ في لَحْظَةٍ، فَيَبُوءُ
بِإثْمِهِ وإثْمِهِمْ.
اللهمَّ اسْتَعْمِلْنَا في طاعَتِكَ،
واجْعَلْنَا هُداةً مُهْتَدِينَ، ومَفاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغالِيقَ لِلشَّرِّ، اللهم
آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، اللهم وفقنا لما يرضيك عنّا وجنبنا ما يسخط
علينا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظنا
بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء
ولا حاسدين يا رب العالمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم
أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم أعزَّ
الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين
في كل مكان، اللهم كن لعبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن
المستضعفين من المؤمنين، اللهم أصلح ولاة أمرنا، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيّدهم
بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة واجزهم خيرا على
ما يقدمونه للإسلام والمسلمين يا رب العالمين، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|