التَّحْذِيرُ مِن الغِشِّ في التِّجارَةِ، وَبَيانُ
شُرُوطِ البَيْعِ الْمَبْرُورِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالَى، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ الحَلالِ
فقال: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا )، وأَخْبَرَ اللهُ تعالى أَنَّ
الرزْقَ الحَلالَ هو مِن فَضْلِ اللهِ، قال تعالى: ( فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ). فإذا كان اللهُ
تعالى أَمَرَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ الطَّيِّبِ الحلالِ، وأَخْبَرَ أَنَه فَضْلٌ
مِنْه على عِبادِه، فهذا دليلٌ على أَنَّه يُحِبُّه، وإِذا كان يُحِبُّه، فهذا
دليلٌ عَلَى أَنَّه عِبادَه، إذا كان عَوْنًا لِلْعَبْدِ عَلى الطاعَةِ، ولَمْ
يُشْغِل عَن العِبادَةِ ورِعايَةِ الأُسْرَةِ، وَيَسْتَغِنِي بِهِ هُو ومَن
يَعُولُ عَنِ الناسِ والحاجَةِ إِلَيْهِم. وإِذا كان طَلَبُ الرِّزْقِ بِهِذِه
الصُّورَةِ عِبادَةً مَحْبُوبَةً إلى اللهِ، فَإِنَّ تَرْكَهُ والعَيْشَ عالَةً
على الناسِ إِثْمٌ يُحاسَبُ عَلَيْهِ المَرْءُ.
وَمِنْ فَضْلِ
اللهِ عَلَى عِبادِهِ، أَنَّه لَمْ يَحْصُرْ الرِّزْقَ عَلَى بابٍ واحِدٍ،
وإِنْ كانَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ.
وَمِنْ
أَفْضَلِ الْمَكاسِبِ يا عِبادَ اللهِ وأَكْثَرِها بَرَكَةً: التِّجارَةُ
الْمَبْرُورَةُ، والبَيْعُ الْمَبْرُورُ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِيه: (
البَيِّعانِ بِالخِيِارِ مِا لَمْ يَتَفَرَّقَا،
فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِما، وَإِنْ كَتَما
وَكَذَبَا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا ). وقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ
عَليه وسلم: ( إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ
القِيامَةِ فُجَّارًا، إلَّا مَن اتَّقَى اللهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ ). والْمُرادُ
بِالتُّجَّارِ: كُلُّ مَنْ اشْتَغَلَ بِالتِّجارَةِ
والبَيْعِ والاسْتِثْمارِ، سَواءً كانَ تاجِرًا صَغِيرًا، أَوْ كَبِيرًا.
وَقَدْ دَلَّتْ
الأَدِلَّةُ عَلى أَنَّ البَيْعَ الْمَبْرُورَ، والتِّجارَةَ الْمَبْرُورَةَ،
لابُدَّ فيها مِنْ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ:
الأَوَّلُ:
السَّماحَةُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ وإذا اشْتَرَى وإذا
اقْتَضَى )، وذلكَ بِأَنْ يَكُونَ سَهْلًا في تَعامُلِهِ، وَمُخاطَبَتِهِ،
وَطِيبِ لِسانِهِ، بَعِيدًا عَن الجَشَعِ والْمُبالَغَةِ في رَفْعِ الْمَكْسَبِ،
وَمُراعِيًا لِأَحْوالِ الناسِ.
وَيَلْزَمُ مِن
السَّماحَةِ: عَدَمُ احْتِكارِ السِّلَعِ التي
يَحْتاجُها الناسُ، وَعَدَمُ حَبْسِها عَنْهُمْ كَيْ تَرْتَفِعَ قِمَتُها،
أَوْ يَكْثُرَ الإقْبالُ عَلَيْها. أَوْ تَنْصَرِفَ الوُجُوهُ إِلَيْهِ، يَقُولُ
النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( لا يَحْتَكِرُ
إلا خاطِئٌ ).
الثانِي مِنْ
شُرُوطِ البَيْعِ الْمَبْرُورِ: الصِّدْقُ
والبَيانُ، وَعَدَمُ كِتْمانِ العُيُوبِ، أَوْ إِظْهارِها بِغَيْرِ حالِها
الحَقِيقِيَّةِ، تَغْرِيرًا بِالْمُشْتَرِي.
وَيَدْخُلُ في
الصِّدْقِ: عَدَمُ التَّلاعُبِ بِالْمُنْتجاتِ،
عَلَى أَنَّها مِن البَلَدِ الفُلانِي، وَلَيْسَتْ كذلكَ، أَوْ الْمُواصَفاتِ
الفُلانِيَّةِ والْمَقايِيسِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَلَيْسَتْ كذلك، أَوْ أَنَّها
سارِيَةُ الصَّلاحِيَةِ، وَهِيَ مُنْتَهِيَةُ الصَّلاحِيَةِ، وَغَيْرُ ذلكَ مِن
التَلاعُبِ والغِشِّ.
وَيَدْخُلُ في
الصِّدْقِ: البُعْدُ عَنِ التَّخْفِيضاتِ
الوَهْمِيَّةِ، التي تَجْعَلُ الْمُسْتَهْلِكَ يُقْبِلُ عَلَى شِراءِ
سِلْعَةٍ عَلَى أَنَّها أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِها، وَلَيْسَتْ كذلك، كَأَنْ يَقُولَ:
هذه السِّلْعَةُ قِيمَتُها خَمْسونَ، فَخَفَّضْناها إلى ثَلاثينِ، وَهُوَ في
الحَقِيقَةِ كانَ يَبِيعُها بِأَكْثَرَ مِن قِيمَتِها، ثُمَّ خَفَّضَها إلى
قِيمَتِها الحَقِيقِيَّةِ.
وَيَدْخُلُ في
ذلكَ: أَنْ يُعْلِنَ التاجِرُ عَنْ
تَخْفِيضاتٍ تَصِلُ مَثَلًا إلى سَبْعِينَ بِالْمائَةِ، ثُمَّ إذا دَخَلْتَ
عِنْدَهُ لا تَجِدُ هذا التَّخْفِيضَ الكَبِيرَ إلا في مُنْتَجٍ أَوْ مُنْتَجَيْنِ،
وَقَدْ لا يَكُونُ بِهِما حاجَةٌ، وأَمَّا بَقِيَّةُ السِّلَعِ فَتَخْفِيضُها
زَهِيدٌ قَدْ لا يَسْتَحِقُّ الدُخُولَ والتَسَوُّقَ.
وَيَدْخُلُ في
الكَذِبِ وَعَدَمِ الصِّدْقِ: ظاهِرَةُ
التَسَتُّرِ التِّجارِي، وإيواءُ العَمالَةِ واسْتِعْمالُها في غَيْرِ ما
اسْتُقْدِمُوا له، فَإنَّه مَمْنُوعٌ، وكَسْبُه غَيْرُ جائِزٍ،
لِمخالَفَتِهِ لِتَعْلِيماتِ وَلِيِ الأَمْرِ، وَكَذلكَ انْتِشارُ تِجارَةِ
التَّأْشِيراتِ، مِمَّا يَتَسَبَّبُ في مُزَاوَلَةِ أَنْشِطَةٍ مَحْظُورَةٍ
شَرْعًا، وَمُضِرَّةٍ بِالْمُجْتَمَعِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ
اللهِ الثالِثُ مِنْ شُرُوطِ البَيْعِ الْمَبْرُورِ: البِرُّ والتَّقْوَى، وَعَدَمُ بَيْعِ الْمَوادِّ الْمُحَرَّمِةِ،
كَالصُّوَرِ والتَماثِيلِ، وَالدُّخانِ والشِّيشَةِ، والأَغانِي والْمَعازِفِ.
وكذلكَ
الْمُعامَلاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلى الرِّبا، أَوْ الجَهالَةِ والغَرَرِ.
وأَخْطَرُ مِنْ
ذلكَ: بَيْعُ الكُتُبِ والْمَجَلَّاتِ الْمُشْتَمِلَةِ
عَلَى ما يُفْسِدُ عَقِيدَةَ الْمُسْلِمَ، وَسُلُوكَهَ وأَخْلاقَه.
وَمِنْ ذلكَ
أيْضًا: تَأْجِيرُ الْمَحَلَّاتِ التي تَبِيعُ
الأَشْياءَ الْمُحَرَّمَةِ، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
).
اللهم اكْفِنا بِحلالِكَ عَنْ حَرامِكَ،
وأَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا
وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم خلصنا من حقوق
خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح
قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أنزل على المسلمين
رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك
وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة
واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا
قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ
بلادنا مما يكيد لها، وانصرها على أعدائها في داخلها وخارجها، اللهم احفظ لهذه
البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم أخرجها من الفتن والشرور
والآفات، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما كانت،
اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من
عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء
منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|