تَأْسِيسُ
البُنْيانِ عَلى التَّقْوَى - والتحذيرُ مِن الحجِّ بِلا تصريح
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى وَراقِبُوه،
واعْلَمُوا أَنَّ تَقْوَى اللهِ تَعالَى أَساسُ الدِّينِ، وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ
لِلْأَوَّلِينَ والآخِرين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ
وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ
اتَّقُوا اللَّهَ ).
والتَّقْوَى يا
عِبادَ اللهِ: هِيَ طاعَةُ اللهِ وَطاعَةُ رسولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم.
وَهِيَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَذابِ اللهِ وِقايَةً، بِفِعْلِ
الواجِباتِ وِتَرْكِ الْمُحَرَّماتِ. وَهِيَ سَبَبُ السعادَةِ والنَّجاةِ في
الدنيا والآخرة.
ثُمَّ اعْلَمُوا يا عِبادَ اللهِ: أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ ما يَتَعَلَّقُ بِتَقْوَى اللهِ، أَنْ
يُؤَسِّسَ العَبْدُ بُنْيانَ عَمَلِهِ عَلى تَقْوَى مِن اللهِ وَرِضْوانٍ، قال
تعالى: ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى
تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى
شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ).
فَمَنْ بَنَى
عَقِيدَتَه وَعِبادَتَهُ، وَسُلُوكَه، وَمُعامَلَاتِهِ، عَلَى الإيمانِ
والتَّقْوَى، وَمُراقَبَةِ اللهِ، أَصْلَحَ اللهُ شَأْنَه، وَيَسَّرَ لَهُ
أُمُورَه، وَكانَ مَعَهُ يُسَدِّدُهُ وَيُوَفِّقُهُ، وَيَحْفَظُهُ وَيَكْلَؤُه،
وَيُبَارِكُ لَهُ في مَساعِيِهِ. وَمَنْ بَنَى ذلك عَلَى الظُّلْمِ وَعَلَى
مَعْصِيَةِ اللهِ وَمُخالَفَةِ أَمْرِهِ، فَحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَفْسُدَ ما بَنَاه
وَيَنْهار.
فَمَنْ بَنَى
عِبادَتَهُ عَلَى الإخلاصِ للهِ والْمُتابَعَةِ لِرَسولِ اللهُ صلى اللهُ عليه
وسلم، وَفَّقَهُ اللهُ في أدائِها وَثَبَّتَهُ عَلَيْها وَظَهَرَ أَثَرُها
عَلَيْهِ، وَزادَهُ إِيمانًا وَتَقْوَى، وَقَبِلَ اللهُ مِنْه عِبادَتَه وَأَثابَه
عَلَيْها. وَمَنْ أَخَلَّ بِالإخْلاصِ والْمُتابَعَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، لَمْ
تُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ إلَّا التَّعَبَ.
والزَّوْجانِ
اللَّذانِ بَنَيَا حَيَاتَهُمَا عَلَى وَفْقِ ما أَمَرَ اللهُ، فَكانَتْ
الزَّوْجَةُ ذاتَ دِينٍ، وَكانَ الزَّوْجُ ذَا دِينٍ وَخُلُقٍ وَأَمانَةٍ، وَأَسَّسَا
بَيْتَهُما عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرَيَا أَثَرَ
ذلِكَ فِي حَياتِهِمَا، مِنْ التَّوْفِيقِ وَالْمَحَبَّةِ والأُلْفَةِ وَالْحِفْظِ
والبَرَكَةِ مِن اللهِ. بِخِلَافِ مَنْ يُؤَسِّسُ بُنْيِانَ حَيَاتِهِ
الزَّوْجِيَّةِ عَلَى العِشْقِ والخِيانَةِ واللِّقاءَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ
بُنْيَانَه ضَعِيفٌ وَأَسَاسَه عَلَى خَطَرٍ.
وَمَنْ رَبَّى
أَوْلَادَه مُنْذُ الصِّغَرِ عَلَى التَّوْحِيدِ والسُّنَّةِ، وَالْمُحافَظَةِ
عَلَى الصلاةِ وسائِرِ مَا أَوْجَبَ اللهُ، وَمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، لَابُدَّ
وَأَنْ يَرَى أَثَرَ ذلك عَلَيْهِمِ في الكِبَرِ، بِخِلَافِ مَنْ يُرَبِّيهِم
عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّه يُخْشَى عَلَى دِينِهِم وَأَخْلَاقِهِمْ فِي
الكِبَرِ لِعَدَمِ وُجُودِ الأَساسِ الصحيحِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ.
وَمَنْ حَفِظَ
جَوَارِحَه فِي الصِّغَرِ مِنْ الوُقُوعِ فِي الفَوَاحِشِ والْمَعاصِي، وَنَشَأَ
فِي عِبادَةِ اللهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَرَى أَثَرَ ذَلِكَ فِي الكِبَرِ، قال
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( احْفَظِ
اللهَ يَحْفَظْكَ )، بِخِلَافِ مَنْ
اسْتَعْمَلَها فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَمْ يُشْغِلْهَا بِطاعَةِ اللهِ، فَإِنَّه
يُخْشَى أَنْ تَخُونَهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْها.
وَمَنْ بَنَى
تِجَارَتَهُ عَلَى الصِّدْقِ والأَمَانَةِ والرِّزْقِ الحَلَالِ وَالكَسْبِ
الطَّيِّبِ، وَأَدَّى حَقَّ اللهِ فِيها مِنْ زَكَاةٍ وَنَفَقَةٍ، بَارَكَ اللهُ
لَه، وَحَفِظَ مَالَه، وَزَادَهُ أَضْعافًا مُضَاعَفَةً، وَاْنْعَكَسَ ذَلِكَ
عَلَى أخْلَاقِهِ وَأَخْلاقِ مَنْ يَعُولُ، لِأَنَّ أَجْسادَهُمْ تَغَذَّتْ عَلَى
الكَسْبِ الطَّيِّبِ. بِخِلَافِ مَنْ يَبْنِي تَجَارَتَه عَلَى الكَسْبِ الحَرَامِ
لَابُدَّ وَأَنْ يَرَى أَثَرَ ذَلِكَ السَّيِّئَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ تَغَذَّى
مِنْ كَسْبِهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَوْلَادٍ.
وَطَالِبُ
العِلْمِ إذا طَلَبَهُ للهِ، وَكانَ حَرِيصًا عَلَى السُّنَّةِ والمَنْهَجِ
الصحيحِ، لَابُدَّ وَأَنْ يَرَى أَثَرَ ذلكَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَمَلِهِ
وَدَعْوَتِهِ. بِخِلَافِ مَنْ يَتَعَلَّم وَهُوَ فَاسِدُ النِّيَّةِ، أَوْ بَعْيدٌ
عَنْ السُّنَّةِ وَالْمَنْهَجِ الصحيحِ، فَإِنَّه فِي الغالِبِ يُحْرَمُ
التَّوْفِيقَ والسَّدادَ وَمُوَافَقَةَ الصَّوابِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ
أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ
وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ اللهِ:
يَتَبَيَّنُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ حِسِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِىٍّ يَقُومُ
بِهِ الفَرْدُ أَوْ الجَماعَةُ، أَوْ الحُكُوماتِ، فَإِنَّه كَالبُنْيانِ: إذا
كانَتْ أَساساتُهُ قَوِيَّةً وَمَتِينَةً وَمُحْكَمَةً، اكْتَمَلَ وَدامَ. وإذا
كانت أَساساتُهُ ضَعِيفَةً فَإِنَّه فِي الغالِبِ يَنْهارُ وَلَا يَدُومُ. هَذا
هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
ثُمَّ اعْلَمُوا يا
عِبادَ اللهِ: أَنَّنَا نَعِيشُ في أَشْهُرِ
الحَجِّ، ومِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَعِدُّ لِلذَّهابِ إلى مَكَّةَ وأداءِ
هذه الشَّعِيرَةِ العَظِيمَةِ، سَواءً كانَ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، فَيَجِبُ
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُراعِيَ ما أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ في ذلكَ، كَيْ
يَكُونَ حَجُّهُ مَبْرُورًا، وأَنْ يَجْعَلَهُ مَبْنِيًّا عَلى التَّقْوَى، (
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
)، وَذلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ
الخالِصِ السالِمِ مِن الشِّرْكِ، وأَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ للهِ، وأَنْ يَكُونَ
في حَجِّهِ مُوافِقًا لِسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، وأَنْ
يَبْتَعِدَ عَنِ الذُّنُوبِ والْمَعاصِي والحِيَلِ عَلى مَحْظُوراتِ الإْحْرامِ،
وَيَجِبُ مَعَ ذلكَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بِالأَنْظِمَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ
باسْتِخْراجِ التَّصْرِيحِ لِمَنْ أَرادَ الحَجَّ.
وَقَدْ صَدَرَ بَيانٌ مِن هَيْئَة كِبارِ العُلَماءِ، بِعَدَمِ
جَوَازِ الذَّهابِ إلى الحَجِّ دُونَ أَخْذِ تَصْرِيحٍ، وأَنَّ مَنْ حَجَّ بِلا
تَصْرِيح، فَإِنَّه آثِمٌ، لِمُخالَفَتِهِ لِوَلِيِّ الأَمْرِ. كَمَا وَرَدَ في
البَيانِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن اسْتِخْراجِ التَّصْرِيحِ لِحَجِّ
الفَرِيضَةِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَراقِبُوهُ
فِي جَمِيعِ مَا تَأْتُونَ وَتَذَرُونَ مِنْ الأَقْوالِ والأَعْمَالِ،
وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعالَى: ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ
نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ).
اللهُمَّ أَعِنَّا
عَلًى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، وارْزُقْنا التَّوْفِيقَ
والسَّدادَ في أَقْوالِنا وأَعْمالِنا، اللهُمَّ خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا فِي الحـَلالِ
مِن رِزقِك، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا
بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ
أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ
لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً
لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ،
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ
الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي
كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين
الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ
بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ
سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ
بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا
بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم
البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|