وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقوا اللهَ تعالى، وآمِنُوا
باللهِ ورسولِه، واعلمُوا أَنَّ الإيمانَ الذي في القَلْبِ لَهُ ثَمَراتٌ تَظْهَرُ
عَلَى جَوارِحِ العَبْدِ، وَكُلَّمَا زادَ وَكَمُلَ، صارَتْ ثَمَرَتُهُ أَعْظَمَ
وَأَكْمَلَ. وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِهِ: - الاخْباتُ – والْمُخْبِتُ هُوَ
الخاضِعُ للهِ، الخاشِعُ للهِ، الْمُخْلِصُ لَهُ، والْمُداوِمُ عَلى طاعَتِهِ، والْمُحْسِنُ
لَها. ولِذلكَ كانَ مِنْ دُعاءِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ
رَهَّابًا، لَكَ مُطْوَاعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّهًا مُنِيبًا
).
فالإخْباتُ ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَراتِ الإيمانِ
الكامِلِ، وَدَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ لا يَنالُها كُلُّ أَحَدٍ.
وِلِذَلِكَ
أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْمُخْبِتِينَ لَهُمْ البُشْرَى، وَأَمَرَ اللهُ
تَعَالى نَبِيِّهُ في سُورَةِ الحَجِّ بِأَنْ يُبَشِّرَ الْمُخْبِتِينَ، ثُمَّ
ذَكَرَ لَنَا أَوْصافَهُمْ، فَقالَ سُبْحانَه: ( فَإِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ
وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ).
فَهِذِهِ أَرْبَعُ صِفاتٍ لِلْمُخْبِتِينَ.
أَوَّلُها:
إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ: أي خافَتْ وَرَهَبَتْ،
فأَوْجَبَتْ لَهُمْ خَشْيَةَ اللهِ وَتَعْظِيمَه، وطاعَتَه وَتَرْكَ مَحارِمِهِ،
فَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ عَلاماتِ الخَوْفِ مِن اللهِ، تَرْكَ مَعْصِيَتِهِ،
وَلِذلكَ كانَ مِنْ دُعاءِ النبيِّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اللهمَّ اقْسِمْ لِي مِنْ خَشْيَتِكَ ما تَحُولُ بِهِ
بَيْنِي وَبَيْنَ مَعْصِيتِكَ )، وأخَبَرَ النبيُّ صلى اللهُ عَليهِ وسلم،
أَنَّ مِن السَّبْعَةِ الذينَ يُظِلُّهُم اللهُ في ظِلِّهِ: ( وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ،
فَقالَ إنِّي أَخافُ اللهَ ).
وَيَلْزَمُ مِنْ وَجَلِ قُلُوبِهِم عِنْدَ
ذِكْرِ اللهِ، أَنَّهُمْ إذا سَمِعُوا ما يُسْخِطُ اللهَ، نَفَرَتْ قُلُوبُهُم
واشْمَأَزَّتْ.
الصِّفَةُ
الثانِيَةُ مِنْ صِفاتِ الْمُخْبِتِينَ: قَوْلُهُ: ( وَالصَّابِرِينَ
عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ )، أيْ بِسَبَبِ إِيمانِهِم بالقَدَرِ خَيْرِهِ
وَشَرِّهِ، لا يَجْزَعُونَ، وَلا يَسْخَطُونَ، وَيَصْبِرُونَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ
الأُولَى، لِأَنَّ قَلُوبَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ، وَيَصْبِرُونَ ابْتِغاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ، وَيَحْتَسِبُونَ الثَّوابَ مِنْ عِنْدِهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ما
أَصابَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُمْ، وما أَخْطَأَهُمْ لَمْ يَكُن
لِيُصِيبَهُمْ. وَيَعْلَمُونَ أَنَّ حُكْمَ اللهِ ماضٍ فِيهِمْ، وأَنَّ قَضاءَ
اللهِ عَدْلٌ فِيهِمْ. لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِاللهِ رَبًّا، فَرَضُوا بِحُكْمِهِ
وَتَدْبِيرِهِ وَقَضائِهِ وَقَدَرِهِ. قال تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ).
الصِّفَةُ
الثالِثَةُ مِنْ صِفاتِ الْمُخْبِتِين: قَوْلِهُ: ( وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ). أي الذين يُقِيمونَها،
وَلا يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ الأَداءِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الفِعْلِ
الظَّاهِرِ يَشْتَرِكُ فيهِ الْمُؤْمِنُ والْمُنافِقُ، والْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ،
والْمُخْلِصُ والْمُرائِي.
وأَمَّا الإِقامَةُ: فَالْمُرادُ بِها
أداءُ حُقُوقِ الصَّلاةِ، وَذلكَ بِإِخْلاصِ النِّيَّةِ للهِ، وأدائِها في
وَقْتِها، وَتَكْمِيلِ الطَّهارَةِ الواجِبَةِ لَهَا، وَبِتَدَبُّرِ أَذْكارِها،
وتَطْبِيقِ أَحْكامِها، واجْتِنابِ مُبْطِلاتِها، فَهِيَ عِمادُ الدِّينِ، وَنُورُ
الْمُسلمين، وَمِيزَانُ الإيمانِ، وعَلامَةُ صِدْقِ الإسلامِ.
وَلا
يَكُونُ العَبْدُ مُقِيمًا لِلصَّلاةِ، إلَّا إذا أَدَّاها مَعَ الجَماعَةِ في
الْمَسْجِدِ. قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَليه وسلم: ( مَنْ سَمِعَ النِّداءَ فَلَمْ يَأْتِ، فَلَا صَلاةَ لَهُ
إلَّا مِنْ عُذْرٍ )، وقال ابنُ مَسْعُودٍ رضي اللهُ عَنْه: ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا،
فَلْيُحافِظْ عَلى هذِهِ الصَّلَواتِ حَيْثُ يُنادَى بِهِنَّ )، أَيْ في الْمَساجِدِ.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ
الله: الصِّفَةُ الرابِعَةُ مِنْ صِفاتِ الْمُخْبِتِين: قَوْلُه: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ). أي
يَعْلَمُونَ أَنَّ ما بِأَيْدِيهِمْ مِن الخَيْرِ، فَإِنَّه مِن اللهِ، فَلَا
يَبْخَلُونَ، ولا يُمْسِكُونَ، وَلا يَمْنَعُونَ حَقَّ اللهِ الواجِبَ أَوْ الْمُسْتَحَبَّ.
فَيُنْفِقُونَ في السِّرِّ والعَلَنِ، والليلِ والنهارِ، النَّفَقاتِ الواجِبَةِ
كالزَّكَواتِ والكَفَّاراتِ، والنَّفَقَةِ عَلى الزَّوجاتِ والأَولادِ. أو
النَّفَقَةَ الْمُسْتَحَبَّةَ في جَمِيعِ طُرُقِ الخَيْرِ، سَواءً كانَتْ عَلى
الأَقارِبِ أو الأَرامِلِ واليَتامَى والْمَساكِينِ، أوْ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ،
أَو عَلى الْمَسَاجِدِ، أَو غَيْرِ ذلك.
وَيُلاحَظُ
في صِفاتِ الْمُخْبِتِينَ: أَنَّهُم أَصحابُ نَفْعٍ خاصٍّ، وَنَفْعٍ
مُتَعَدٍّ. فالصِّفاتُ الثَّلاثِ الأولى:
نَفْعُها خاصٌّ. والصِّفَةُ الرابِعَةُ
نَفْعُها عامٌّ وَمُتَعَدٍّ، وَهِيَ النَّفَقَةُ في وُجُوهِ البِرِّ.
نَسْأَلُ
اللهَ أَنْ يَجْعَلنا مِنْ أَصْحابِ هذه الصفاتِ. رَبَّنَا اجْعَلْنا لَكَ
شَكَّارين، لَكَ ذَكَّارين، لَكَ رَهَّابين، لَكَ مُطْوَاعين، إِلَيْكَ مُخْبِتين،
إِلَيْكَ أَوَّهين مُنِيبين، ربَّنا تَقبَّل تَوبَتَنا، وَاغْسِلْ حَوبَتنَا،
وأجِب دعوَتَنَا، واهدِ قلُوبَنَا، وسدِّد أَلْسِنَتَنَا، وثبِّت حُجَّتَنَا
واسلُلْ سَخِـيمةَ قلُوبِنَا، اللهُمَّ أصلحْ قلوبنَا وأعمالَنا
وأحوالَنا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا
الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا
مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ
الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا
مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ
الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ
أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ، اللهم عليكَ بالكفرةِ والملحدين الذين يصدُّون عن دينِك ويقاتلون عبادَك
المؤمنين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ
وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ
زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ
العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ
وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم
بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ
النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ،
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|