تَرْكُ
المِراءِ والكَذِب، والحَثُّ عَلى حُسْنِ الخُلُق
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها
الناس: اتقوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أن حُسْنَ الخُلُقِ مِن أعظمِ خِصالِ
الإيمانِ التي حَثَّ عليها الشارعُ الحَكيمُ، قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
( إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأَخْلاقِ ). وهذا يَدُل على التَّلازُمِ بين
الدِّينِ والخُلُقِ.
ومِن الأَخْلاقِ الصالِحَةِ التي أَرْشَدَ
إِلَيْها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قَوْلُه: ( أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ
الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَببيتٍ في وَسَطِ
الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإِن كَانَ مازِحًا، وَببيتٍ في أَعْلى الجَنَّةِ
لِمَن حَسُنَ خُلُقُه ). وهذا الحديثِ مِن جَوامِعِ كَلِمِ النبيِّ صلى الله عليه
وسلم، التي اشْتَمَلَتْ على الأَدَبِ ومَحاسِنِ الأَخلاقِ، وحُسْنِ التعامُلِ مَعَ
الآخَرين. وقَدْ ذَكَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جَزاءَ هذه الأَخْلاقِ
بِأَنَّه زَعِيمٌ، أَي ضامِنٌ ثلاثةَ بُيُوتٍ في الجنةِ لأَهْلِها.
أَوَّلُها: بَيتٌ في رَبَضِ الجنةِ، أَيْ
أَطْرافِها وما حَوْلَها، لِمَن تَرَكَ المِراءَ وَلَو كانَ صادِقًا وعلى حَقٍّ
وصَواب، والمِراءُ: هو الجدالُ الذي يُفْضِي إلى المُشَادَّةِ
والمُغالَبَةِ في الكلامِ، والتَعَصُّبِ والانتِصارِ لِلنَّفْسِ، وهذا النَّوعُ
مِن الجِدالِ دائِماً يُفْضِي إلى المُخاصَمَةِ، ومَفْسَدَتُهُ أَكْثَرُ مِن
مَنْفَعَتِه، بَلْ قَدْ يَخْلُوا مِن المَنْفَعَةِ والمَصْلَحَة.
فَمِن مَفاسِدِه: حِرْمانُ الأَجْرِ
الوارِدِ في الحَديثِ الذي سَمِعْتُمُوه.
وَمِن مَفاسِدِه: أَنَّه سَبَبٌ لانتِشارِ
الباطِلِ والأفكارِ المُنْحَرِفَةِ, لِأَنَّ أَهْلَ الباطِلِ أَكْثَرُ الناسِ
مِراءً، وهذا يَحُثُّهُم على الاجتِهادِ في نَشْرِ باطِلِهِم، والواقِعُ يَشْهَدُ
كَمَا نَراهُ اليَوْمَ ونَسْمَعُه عَبْرَ الفَضائِياتِ وَوَسائِلِ التَواصُلِ.
ومِن آثارِهِ أَنَّهُ يَجُعَلُ صاحِبَه
مُتَقَلِّبًا في أَفْكارِهِ وكَثيرَ التَنَقُّلِ، قال عُمَرُ بنُ عبدالعزيزِ رحمه
الله: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ عُرْضَةً لِلخُصوماتِ أَكْثَرَ التَنَقُّل".
أي: لَمْ يَسْتَقِرَّ على حالٍ، بَلْ في كُلِّ يومٍ لهُ مَذْهُبٌ ورأيٌ، نَعوذُ
بالله مِنْ هذِهِ الحال.
ومِن مَفاسِدِه: حِرْمانُ الخَيْرِ، فقد: (
خرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةٍ مِن لَيالِي العَشْرِ في
رَمَضانَ لِيُخُبِرَ بِلَيلَةِ القَدْرِ، فَتَلاحَى رجُلانِ مِنَ المسلمين، فقال:
خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُم بِلَيلةِ القَدْرِ، وإِنه تَلاحَى فُلانٌ وفُلان،
فَرُفِعَت ). وهذا يَدُلُّ على ذَمِّ الخُصومَةِ والتَنازُعِ وكَثْرَةِ الجَدالِ
بِلا فائِدَة، وأَنَّ ذلِكَ مِن أسبابِ العُقوبةِ، وحِرْمانِ الخيرِ، فإنَّ
النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أُنْسِيَ لَيلَةَ القَدْرِ بِسَبَبِ المُلاحاةِ التي
جَرَتْ بينَ الرَجُلين. وهذا يَجْعَلُنا نَحْذَرُ غايَةَ الحَذَرِ مِنْ ذلِك،
لِأَنَّ كَثْرَةَ المُخاصَمَةِ والجَدَلِ، تُوغِرُ الصُّدُورَ، وتَنْشُرُ
الأَحْقادَ، وَيَحْصُلُ بِسَبَبِها الهَجْرُ والقطيعة. وتُتَّهَمُ بِسَبَبِها
النَّوايا. خُصوصاً مَنْ كانَ هذا دَيدَنُه، فإِنَّهُ في الغالِب: يُقَدِّمُ
لِسانَهُ عَلى عَقْلِه، وطَيْشَهُ عَلى عِلْمِهِ وحِلْمِه، وظُلْمَهُ على عَدْلِهِ
وإِنْصافِه.
ومِنْ مَفاسِدِه: الخُروجُ عَن مَوْضُوعِ
الحِوارِ الذي مِن أِجْلِهِ أُقِيمَ النِّقاشُ، وَأَدَلُّ دلِيلٍ على ذلك ما يَراه
الناسُ ويَسْمَعُونَه في الفَضائِيَّاتِ وشَبَكاتِ التَواصُلِ مِن الهَيْشَاتِ
والتَجَاوُزاتِ التي تَصِلُ أَحْيانًا إلى الخُصُوماتِ بَلْ والمُضارَباتِ.
ورَحِمَ اللهُ الشافِعِيُّ حِينَ قال: " مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلا
أَحْبَبْتُ أَنْ يُوفَّقَ ويُسَدَّدَ وَيُعانَ، ومَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ
إِلّا وَلَمْ أُبالِي بَيَّنَ اللهُ الحَقَّ عَلَى لِسانِي أَوْ لِسانِه ".
ومِن مَفاسِدِ المِراءِ: قَسْوَةُ القَلْبِ
وانْشِغالُهِ بِالتَفْكِيرِ والهُمُومِ والصِّراعِ النَّفْسِيّ، والبُعْدُ عَن
العَمَلِ بِمَا يُفِيدُ. وقَد اشْتَهَرَ عِنْدَ السَّلَفِ: " أَنَّ اللهَ إذا
أَرادَ بِعَبْدِهِ شَرًّا فَتَحَ لَه بابَ الجَدَلِ، وأَغْلَقَ عَنْهُ بابَ
العَمَل، وإذا أرادَ بِعَبْدِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَه بابَ العَمَلِ وأَغْلَقَ عنه
بابَ الجَدَل ". وهذا المَنْقُولُ عن السَّلَفِ دَلِيلُه قَوْلُ النبيِّ صلى
الله عليه وسلم: ( ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عبادَ
الله: البَيْتُ الثاني في الحَدِيثِ: بَيْتٌ في وَسَطِ الجنَّة، ضَمِنَه النبيُّ
صلى اللهُ عليه وسلم، لِمَن دَيْدَنُه الصِّدْقُ، ولَيْسَ لِلْكَذِبِ عليه سَبيلٌ
بِأَيِّ حال، لِأَنَّه إِذا كان لا يَكْذِبُ مازِحاً، فَمِن بابِ أَوْلَى أَنْ لا
يَكْذِبَ بِحالِ، وهذا أَمْرٌ لابُدَّ أَنْ تَعْرِفُوه يا عِبادَ اللهِ،
وتَقِيسُوا بِهِ الرِّجالَ في هذا الخُلُقِ الرَّفِيعَ أَنَّ الرَّجُلَ إذا كانَ
لا يَكذِبُ ما زِحاً، فَمِنْ بابِ أَوْلى أَنْ لا يَكْذِبَ أَصْلاً، فإِنَّ
الكَذِبَ خُلُقٌ قَبِيحٌ، وكَبِيرَةٌ مِن الكبائِرِ، وعَلامَةٌ عَلى النِّفاقِ،
ويَشْتَدُّ أَمْرُهُ إِذا كان مَعَهُ حَلِفٌ باللهِ، فَإِنَّها اليمينُ الغَمُوسُ
التي تَغْمِسُ صاحِبَها في الإِثْمِ وفي النارِ.
وأَمَّا البَيْتُ الثالِثُ: فَهُوَ بَيْتٌ
في أَعْلى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُه، وهو أَعلَى وأَفْضَلُ مِن البيتين
السابِقَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ لابُدَّ وأَنْ يَتَحَلَّى
بِالخُلُقَين السابِقَينَ وغَيْرِهِما مِن مَكارِمِ الأخلاقِ، ولذلك أَخْبَرَ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ: ( الرَّجُلَ يَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ
دَرَجَةَ الصائِمِ القائِمِ ). ولابُدَّ أَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّ حُسْنَ الخُلُقِ
يَكُونُ مَعَ اللهِ ومَعَ الناسِ، فَيَكُونُ مَعَ اللهِ بِأَنْ يَرْضَى العَبْدُ
بِشَرِيعَةِ اللهِ ويَنْقادَ إِلَيْها، ويُؤْمِنَ بِقَضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ.
ويَكُونُ مَعَ الناسِ بالمُعامَلَةِ الحَسَنَةِ التي أَمَرَ اللهُ بِها.
اللهم
اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهْدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا
سيئها إلا أنت، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها
ومولاها، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين
وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم
من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ لبلادنا دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها
وسيادتها، اللهم انصرها على من يكيد لها في داخلها وخارجها، اللهم أخرجها من الفتن
والشرور، واجعلها أقوى مما كنت، اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين
قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات (
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|