الإمساكُ عنِ الشَّرِّ وتَرْكُ الأذيةِ، وبَيانُ
حُقُوقِ غَيْرِ المسلمين
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتَّقُوا اللهَ تعالى،
واعْلَمُوا أَنَّ الإيمانَ لا يَكْتَمِلُ، حَتَّى يُحِبَّ المؤمنُ لأخِيهِ مِن
الخَيْرِ، ما يُحِبُّهُ لِنَفْسِه، ولا يَحْسُنُ إسلامُ المرءِ إلا إذا سَلِمَ
إخوانُه مِنْ لِسانِه وَيَدِه. وَيَدْخُلُ في ذلك: الإمساكُ
عَن الشَّرِّ، وَتَرْكُ الأذِيَّةِ، فإنَّه مِنْ أَعْظَمِ الصدقاتِ
التي يَتَصدقُ بها المسلمُ على نَفْسِه. قال أبو ذَرٍّ رضي الله عنه: ( سألتُ
النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ قال: " إيمانٌ باللهِ، وجِهادٌ في سَبِيلِه ". قُلْتُ:
فأيُّ الرِّقابِ أفضل؟ قال: " أَغْلاها ثَمَنًا،
وأَنْفَسُها عِنْدَ أهلِها ". قُلْت: فَإِنْ لَمْ أَفْعَل؟ قال:
" تُعِينُ صانِعاً، أو تَصْنَعُ لِأَخْرَق
". قال: فَإِنْ لَمْ أَفْعَل؟ قال: " تَدَعُ
الناسَ مِنْ الشَّرِّ، فإنَّها صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِها على نَفْسِكَ
" ). فالإمساكُ عَن الشَّرِّ صَدَقَةٌ لِلمسلِمِ على نَفْسِه، وفَضِيلَةٌ
وسَلامَةٌ، حَتَّى مَعَ الْمُعاهَدِين مِن الكُفَّارِ، والْمُعاهَدُ هُوَ: الكافرُ الذي بَيْنَه وبَيْنَ المسلمين سَواءً
كانُوا فَرْدًا أَوْ جَماعةً أو دَوْلَةً، عَهْدٌ أوْ أمانٌ وَجِوارٌ، أَوْ جاءَ
لِعَقْدِ عَمَلٍ في الدولةِ الْمُسْلِمَةِ. فَهَؤُلاءِ دِماؤُهُم وأَمْوالُهُم
مَعْصُومَةٌ، وقَدْ جاءَ في نُصُوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ما يُؤَكِّدُ عَلَى
حِفظِ ذِمَّةِ المُسلِمِينَ وَالتَّحذِيرِ مِنَ الغَدرِ وَنَقضِ العَهدِ الذي
أَبرَمُوهُ، وتَحْريمِ أَذِيَّتِهِم، بِأَيِّ نَوْعٍ مِن الأَذَى، وَبَيَانِ أَنَّ
مَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ ارتَكَبَ كَبِيرَةً مِن كبائر الذُّنُوبِ، يَقُولُ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ قَتَلَ مُعاهَدًا،
لَمْ يَرَحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ )، وقال أيضًا: ( أَلا
مَن ظَلَمَ مُعَاهَداً أو انتَقَصَهُ أو كَلَّفَه فَوْقَ طاقَتِه أو أَخَذَ مِنْه
شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنا حَجِيجُهُ يَوْمَ القيامة ). فإذا
كان مَنْ يَفْعَلُ ذلك مَعَ غَيْرِ الْمسلمِ مُتَوَعَّداً بِما وَرَدَ في هذا
الحديثِ، فَكَيْفَ بِمَن يَفْعَلُ ذلك مَعَ المسلمين؟ قال تعالى: ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً
). وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( كُلُّ
المسلمِ على المسلمِ حَرامٌ: دَمُهُ، ومالُه، وعِرضُه ).
وأذيةُ المؤمنين مُتَنَوِّعَة، ومِنْ أَخْطَرِها
ما يَتَعَلَّقُ بالأَعْراضِ وتَتَبُّعِ العَوْراتِ، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ
عليه وسلم: ( يا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسانِه
وَلَمْ يَدْخُلِ الإيمانُ قَلْبَه لا تُؤْذُوا المسلمين ولا تَتَّبِعُوا
عَوْراتِهِم فإنه مَنْ تَتَبَّع عَوْرَةَ أخيه المسلمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه
وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه يَفْضَحُه وَلَوْ في جَوْفِ رَحْلِه ).
وهذا يَدُلُّ على أَنَّ مِثْلَ هذا العملِ عُقُوبَتُه مُعَجَّلَةٌ في الدنيا
قَبْلَ الآخِرَةِ. فَأَعْراضُ المسلمين وعَوْراتُهُم مُحَرَّمَةٌ تَحْريما شَديداً،
وأَذِيَّتُهم في مَحارِمِهم وأَسْرارِهم مِن الذُّنُوبِ الكبيرةِ، ومِن مَظاهِرِ أَذِيَّتِهم في ذلك، استخدامُ
أَجْهِزَةِ الجَوَّالِ في تَتَبُّعِ عَوْراتِهِم، وكَشْفِ أسرارِهِم. وهذا عَمَلٌ
مَشِينٌ قَبِيحٌ لا يَصْدُر إلا مِنْ شَخْصٍ مُنافِقٍ خَبِيثِ النَّفْسِ، وفاسِدِ
القَلْبِ، لَيْسَ لَه مِن التربِيَةِ الصالِحةِ نَصِيبٌ.
ومِنْ
الأَذِيَّةِ: السَّبُّ والشُّتْمُ، والسُّخْرِيةُ
باللِّسانِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ والأحسابِ والقبائِلِ، ومِنْها: الغِيبةُ، وهي ذِكْرُ الْمسلمِ بِما يَكْره،
وكذلك النَّمِيمَةُ وهي: نَقْلُ الكلامِ
الذي يُفرِّقُ بين الناسِ ويُثِيرُ الضَّغِينَةَ والبَغْضاءَ ويَنْشُرُ
العَدَاوَةَ بين المسلمين.
ومِن الأذيَّةِ:
أذيَّةُ الْمسلمين في طُرُقِهم وطُرُقاتِهم، مِنْ خِلالِ القِيادَةِ الْمُتَهَوِّرَةِ،
والتَّفْحِيطِ والسُّرْعَةِ الْمُفْرِطَةِ. وعَكْسُ
ذلك: وُقُوفُ الشبابِ في سياراتِهِم في الشَّوارِعِ وتَعْطِيلُ الْمارَّةِ،
أو إِلْقاءِ القاذُوراتِ والأشياءِ الْمُؤْذِيَةِ في الشَّوَارِعِ، وقَدْ قال صلى
اللهُ عليه وسلم: ( اتَّقُوا اللّعَّانَين )،
قالوا: وما اللَّعَّانانِ يا رسولَ الله؟ قال: ( الذي
يتَخَلَّى في طَرِيقِ الناسِ أو ظِلِّهِم ). فالتَّخَلِّي في طُرُقِ الناسِ
ومَمَرَّاتِهِم، وأماكِنِ جُلُوسِهِم ومُسْتَراحِهم، ومُتَنَزَّهاتِهم حَرَام،
وكذلك إلقاءُ كُلِّ ما هُوَ مُؤْذٍ ومُنَفِّرٍ للناسِ في مِثْلِ هذه الأماكِنِ
فإنَّه مُحَرَّم.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْـحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
ومِنْ
الأذِيَّةِ: تَرْكُ الرَّوائِحِ الكَريهَةِ، التي تَكُونُ في الثِّيابِ،
أَوْ البَدَنِ، أَوْ الفَمِ، والتي قَدْ تَتَحَوَّلُ إلى الْمسلمين في
مَساجِدِهِم.
ثُمَّ
اعْلَمُوا يا عبادَ اللهِ: أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الحُقُوقِ:
حَقَّ الجارِ، فالإحسانُ إليهِ فَرْضٌ واجِبٌ، وأَذِيَّتُه مِنْ كَبائِرِ
الذُّنُوبِ، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يَدْخُلُ الجنةَ
مَنْ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَه ). وقال أيضاً: ( وَمَنْ كان يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِم
جارَه ). والكلامُ عَنْ الأذِيَّةِ وصُوَرِها كَثِيرٌ وطَويلٌ، فَيَنْبَغِي
لِلمُسْلِم أَنْ يَحْذَرَ مِن كُلِّ عَمَلٍ يَضُّرُّ الْمسلمينَ، أوْ يُؤْذِيهِم،
سَواءً كانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، وسَواءً كان دَقِيقًا أو جَلِيلاً، فَإِنَّ
مَظَالِمَ العِبادِ لا تُتْركُ يَوْمَ القِيامَةِ. لِقَوْلِه عليه الصلاة والسلام:
( إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يأتِي يَوْمَ
القيامةِ بِصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويَأْتِي قَدْ شَتَم هذا، وَقَذَفَ هذا، وأَكَلَ
مالَ هذا، وَسَفَكَ دَمَ هذا، وَضَرَبَ هذا. فَيُعْطِى هذا مِن حَسناتِهِ وهذا
مِنْ حَسَناتِه. فَإِن فَنِيَتْ حَسناتُه، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ،
أُخِذَ مِنْ خَطاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيه. ثُمَّ طُرِحَ في النارِ ).
اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاق لا يهدي لأحسنِها إلا أنت واصرف عنّا
سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت، اللهم آتِ نفُوسنا تقواها وزكّها أنت خير من
زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم وفقنا لما يرضيك عنّا وجنبنا ما يسخط علينا، اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظنا بالإسلام
قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا
حاسدين يا رب العالمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا
التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل
خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم
أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم أعزَّ
الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين
في كل مكان، اللهم أصلح ولاة أمرنا، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم
من أنصار دينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين
شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم
وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من
الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا
إليه برحمتك يا أرحم الراحمين ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|