فَضْلُ بِرِّ الوالِدَيْنِ
وَوُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، وابذُلُوا
أسبابَ الفَوْزِ بِرَحمتِه، وَصِلُوا ما أمَرَ اللهُ بَهَ أنْ يُوصًلَ، واعْلَمُوا أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ شأْنُها عَظِيمٌ، وأَمْرُها مُؤَكّدٌ، وَقَطْعُها مِن
أعْظَمِ أسبابِ العُقُوبَةِ العاجِلةِ في الدنيا قَبْلَ الآخِرة. قال تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ). وكذلكَ هِي سَبَبٌ لِلتَوفيقِ وسعادَةِ الْمَرْءِ في
الدُنيا قبلَ الآخِرةِ، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ أحبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رزقِه ويُنْسَأَ لَهُ في أثَرِه
فَلْيَصِلْ رَحِمَه ).
بَلْ إنَّ أَمْرَ صِلَةِ الرَّحِم وظُهُورَه في
الْمُجْتَمَع، يَعُودُ على الْمُجْتَمَعِ كُلِّه بِصلاحِ أمْرِهِم وعَمارِ
دِيارِهِم، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( صِلَةُ الرَّحِمِ وحُسْنُ الخُلُقِ تَعْمُرانِ الدِّيارَ وتَزيدُ
في الأَعمارِ ).
وَمِن لَوَازِمِ ذلكَ: أنَّ قَطِيعةَ الرحِمِ سَبَبٌ لِخَرابِ الدِّيارِ وضِيقِ
الرِّزْقِ، ومَحْقِ بَرَكةِ الرِّزقِ والعُمُر.
ومَن تَأَمَّلَ أَمْرَ خَلْقِها، وتَوَسُّلِها بِرَبِّها، وَوَعْدِ
اللهِ لَها، عَرَفَ عِظَمَ قَدْرِها، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ
قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ:
نَعَمْ، أَما تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟،
قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ فَهُوَ لَكِ ). إنَّه وَعْدٌ صادقٌ مِن الله، فيه ذِكْرَى لِمَن كان
لَه قَلْبٌ يَتَّعِظُ ويَخْشَى.
والوُجُوبُ في
صِلَةِ الرَّحِمِ مُرَتَّبًا عَلَى حَسَبِ الأَوْلَوِيَّةَ والقَرابَة.
وأَوْلَى
الناسِ بِالبِرِّ والصِّلَةِ: الوالِدانِ، ثُمَّ الأَقْرَبُ فالأَقْرَبُ، كالأَوْلادِ والإِخوةِ
والأخواتِ والأعمامِ والعَمَّاتِ والأخْوالِ والخالاتِ.
فَأَعْظَمُ هذِهِ الحُقُوقِ وأَوْجَبُها: بِرُّ الوَالِدَيْنِ، بَلْ هُوَ الحَقُّ
الثاني بَعْدَ الأمْرِ بِعِبادَةِ اللهِ.
فَضَّلَهُ
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عَلَى الجِهادِ في سبيلِ الله: جاء رَجُلٌ إلى
النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَه في الجِهادِ، فَقال: ( أحَيٌّ والِداكَ؟ )، قالَ: نَعَمْ، قال: ( فَفِيهِما
فَجاهِد ).
وَهُوَ عَمَلٌ عَظِيمٌ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ النَّفْسِ، وَرَدِّ
الجَمِيلِ: لِأَنَّ اللهَ
تعالى قال: ( وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما
رَبَّيانِي صَغِيرًا )،
جاءَ رَجُلٌ إلى ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهُما فقال: ( إنِّي حَمَلْتُ أُمِّي عَلَى ظَهْرِي فَطُفْتُ بِها فَهَلْ
لَحِقْتُ جزاءَها؟ فقال: وَلَا زَحْرةً مِن زَحَراتِها ).
وَبرُّ الوالِدَيْنِ عَمَلٌ عَظِيمٌ يَجْعَلُ صاحِبَه مُجَابَ
الدعوةِ: قال رسولُ اللهِ
صلى اللهُ عليه وسلم: ( إنَّ خَيْرَ التابِعينَ
رَجُلٌ يُقالُ لَه أُوَيْسٌ، وَلَهُ والِدَةٌ، وَكانَ بِهِ بَيَاٌضٌ، فَمُرُوه
فَلْيَسْتَغْفِر لَكُم )
وفي رِوَايَةٍ: ( وكانَ بَارًّا بِأُمِّه ). فَصارَ مُستَجَابَ الدعوةِ بِسببِ بِرِّهِ
بأمِّه. وَمِنْ لَوَازِمِ ذلِكَ أنَّ مَنْ كانَ عاقًّا لِوالدَيْهِ فإنَّ دُعاءَه
قَدْ لا يُسْتَجابُ، نَعُوذُ بالله.
وَبِرُّ الوالِدَيْنِ عَمَلٌ عَظِيمٌ جَعَلَهُ اللهُ تعالَى
مُكَفِّرًا لِذُنُوبٍ كِبار، لِأَنَّه مِن أكْبَرِ الحَسَناتِ: جاءَ رَجُلٌ إلى عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله
عنهما فقال: ( إني أحَبَبْتُ امرأةً فنَكَحَتْ غَيْري، فغِرْتُ فقَتْلتُها، فهل لي
مِن تَوبة؟ فقال عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما: أحيّةٌ أُمُّك؟ فقال: نَعَمْ، قال: بُرَّها ) فَسُئِلَ ابنُ عباسٍ عَنْ ذلك؟ فقال: ( لَا أعْلَمُ عملاً أَقْرَبُ إلى اللهِ مِن بِرِّ الوالِدَةِ ).
وَبِرُّ الوالِدَيْنِ عَمَلٌ عظيمٌ جَعَلَ اللهُ ثَوَابَهُ الجنةَ: فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمانِيَةَ أبوابٍ،
وَأَحَدُ هذه الأبوابِ " بابُ الوالِد " كَمَا أخْبرَ النبيُّ صلى الله عليه
وسلم، يَدْخُلُ مِنْه أهلُ البِرِّ والإحسانِ إلى الوالدين.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ
إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ
لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى
آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ
اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالى، واعْلَمُوا أَنَّ بِرَّ
الوَالِدَيْنِ سَبَبٌ لِلنَّجاةِ مِن الْمَآزِقِ والكُرُبَاتِ في
الدنيا، وهذا مَعلومٌ مِن قِصَّةِ الثلاثةِ الذين آواهُم المَبيتُ إلى غارٍ
فانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ فَسَدَّت عَلَيهمُ الغارُ، فأنْجاهُم اللهُ تعالى بِسَبَبِ
تَوَسُّلِهِم إلى اللهِ بِصَالِحِ أعْمالِهم والتي مِنْها بِرُّ الوالِدَيْنِ.
ويَلْزَمُ مِنْ هذا أَنَّ عُقُوقَ الوالِدَيْنِ
مِنْ أَكْبَرِ أَسْبابِ العُقُوباتِ في الدنيا، بَلْ عُقُوبَتُهُ مُعُجَّلَةٌ
والعِياذُ بِاللهِ، قال رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( اثْنَتَانِ عَجَّلَ
اللهُ عُقُوبَتَهُما فِي الدنيا: البَغْيُ وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ).
ثُمَّ اعْلَمُوا
يا عِبادَ اللهِ: أَنَّ بِرَّ الوالِدَيْنِ لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى
بَعْدَ مَوْتِهِما وَيَكُونُ بِالدُّعاءِ الْمُسْتَمِرِّ، والصَّدَقَةِ،
وإِكْرَامِ صَدِيقِهِما وَمَعَارِفِهِما. ( كانَ عبدُ
اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي اللهُ عَنْهُما يَسِيرُ يَوْمًا وَهُوَ راكِبٌ عَلَى حِمارٍ
لَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَعْرابِيًّا نَزَلَ عَبْدُ اللهِ مِنْ حِمارِهِ
وَأَرْكَبَهُ الأعْرَابِيَّ، وَخَلَعَ عِمَامَتَه أَيْضًا فَوَهَبَهَا
لِلْأَعْرابِيِّ، وَقالَ: إِنَّه كان صَدِيقًاً لِعُمَرَ ) أَرادَ بِذَلِكَ
بِرَّ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يرزقَنا برَّ والدِينا أحياءً وأمواتاً وأن
يهديَنا لأحْسَنِ الأخْلاقِ لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلا أَنْتَ، واصْرِفْ عَنَّا
سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أنْتَ، اللهم آتِ نُفُوسَنا تقواها،
وزَكِّها أنت خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أَنتَ وَليُّها وَمَوْلاها، اللهُمَّ
خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا فِي الحـَلالِ مِن رِزقِك، اللَّهُمَّ
تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ،
غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ
عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا،
وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ
زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ
شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ
الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي
كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ
عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون
عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ
زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ
العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ
وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك،
وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ
الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119