أحْكامُ الْمَسجِدِ وفَضلُ العِنايَةُ بِه
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ اللهِ:
اتَّقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الْمَساجِدَ أَطَيَبُ بِقاعِ الأَرْضِ،
وأَحَبُّها إلى اللهِ، فَهِيَ بُيُوتُ اللهِ، وبُيُوتُ الأَتْقِياءِ. قال رسولُ
اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( أَحَبُّ البِلادِ إلى
اللهِ مَساجِدُها )، وقال أيْضًا: ( الْمَسْجِدُ
بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ ). وَلِذلكَ أَمَرَ اللهُ تعالى بِعِمارَتِها،
وَبَيَّنَ أَنَّ ذلك مِنْ عَلاماتِ الإيمانِ. وَجَعَلَ لِلمَساجِدِ مِنْ الأحكامِ
ما لَيْسَ لِغَيْرِها:
فَمِنْ هذِه
الأَحْكامِ: أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا فَإِنَّه لَا يَجْلِسُ فِيها حَتَّى
يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ.
وَمِنْ ذلكَ:
أَنَّه لَا يَجُوزُ وَضْعُ القُبُورِ فِيها، أَوْ بِناؤُها عَلَى القُبُورِ،
لِأَنَّ فِي ذلكَ وَسِيلَةً إلى الشِّرْكِ بِاللهِ.
وَمِنْ ذلك: أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلم قال: ( مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا بَنَى اللهُ
لَهُ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ )، وَيَدْخُلُ فِي ذلكَ تجَدْيِدُ الْمَسْجِدِ
وَكَذلكَ تَرْمِيمُه، لِأَنَّ عُثْمانَ رضيِ اللهُ عَنْه اسْتَدَلَّ بِهذا الحديثِ
عِنْدَمَا أرادَ تَوْسِعَةَ مَسْجِدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمِن ذلك:
ما ثَبَتَ في الصحيحينِ مِنْ حديثِ أَبِي هُريرةَ رضي اللهُ عنه: ( أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ،
فَلَمَّا ماتَتْ، صَلَّى عَلَيْها الصَّحابَةُ بِاللَّيْلِ وَدَفَنُوها وَلَمْ
يُخْبِرُوا رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بِذلكِ، فَلَمَّا سَأَلَ عَنْها
النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قالُوا: إِنَّها ماتَتْ! فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ
والسلامُ: " أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِها
"، فَذَهَبَ وَصَلَّى عَلَيْها )، وَهَذا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ
مَنْ يَعْتَنِي بِالْمَسْجِدِ وَيَتَعاهَدُهُ بِالنظافَةِ والطِّيبِ، وَأَنَّ
تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ والعِنايَةَ بِهِ شَرَفٌ عَظِيمٌ.
وَمِن ذلك:
أَنَّه لَا تُقامُ الحُدُودُ فِيها لِنَهْيِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم عَن ذلك.
وَمِنْ ذلك:
أَنَّ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا فَإِنَّه يُحْرَمُ مِنْ دُخُولِها عُقُوبَةً
لَه، لِأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْخُلَهَا فِي أَحْسَنِ هَيْئَةٍ
وَأَنْ يَعْتَنِيَ بِلِباسِهِ وَأَنّْ تَكُونَ رَائِحَتُهُ طَيِّبَةً.
وَمِنْ ذلك:
أَنَّه لَا يَجُوزُ إِنْشادُ الضَّالَّةِ فِيها وَلَا السُّؤالُ عَنْ الْمَفْقُودِينَ
أَوْ الأشياءِ الضَّائِعَةِ، وكذلكَ لَا يَجُوزُ البَيْعُ والشِّراءُ فِيها وَلَا
الإعلاناتُ التجاريةِ.
وَمِنْ ذلك:
أَنَّه لَا يَجُوزُ زَخْرَفَتُها وَلَا تَزْوِيقُها، لِنَهْيِ النبيِّ صلى اللهُ
عليه وسلم عَنْ ذلكَ. وَلِأَنَّها أَماكِنٌ لِلْعِبادَةِ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُ مَا
يُشْغِلُ الْمُصَلِّي وَيُعَلِّقُ قَلْبَهُ بِالدُّنْيا.
وَمِن ذلك:
أَنَّه لَا يَجُوزُ فِيها كَثْرَةُ اللَّغَطِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ وَكُلُّ مَا
يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْظِيمِها، لِنَهْيِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ
ذَلكَ، وَمِنْ بابِ أَوْلَى مَنْ يَضَعُونَ النَّغَماتِ الْمُوسِيقِيَّةِ فِي
جَوَّالاتِهِم، يَعْصُونَ اللهَ بِها وَيُؤْذُونَ عِبادَ اللهِ.
وَمِنْ ذلكَ:
أَنَّ تَوَطُّنَها وَكَثْرَةَ الجُلُوسِ فِيها مِنْ أسبابِ الفَوْزِ بِمَحَبَّةِ
اللهِ، وَتَثْبِيتِ القَدَمِ عَلى الصِّراطِ يَوْمَ القِيامَةِ، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ: ( مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ
مُسْلِمٌ المَساجِدَ لِلصلاةِ والذِّكْرِ، إِلَّا تَبَشْبَشَ اللهُ لَه مِنْ حِينِ
يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ، كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الغائِبِ بِغائِبِهِمْ إذا
قَدِمَ عَلَيْهِمْ ). وقال أيْضًا: ( الْمَسْجِدُ
بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ كان الْمَسْجِدُ بَيْتَه
بِالرَّوْحِ والرَّحْمَةِ والجَوازِ عَلَى الصِّراطِ إلى رِضْوانِ اللهِ إلى
الجنةِ ). والْمُرادُ هُوَ كَثْرَةُ الجُلُوسِ فِيهِ لِلذِّكْرِ والصلاةِ
وتِلاوَةِ القُرآنِ. وَيَكْفِي أَنَّ مِن السَّبْعَةِ الذين يُظِلُّهُم اللهُ في
ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلا ظِلُّهٌ: ( رَجُلٌ
قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَساجِدِ ).
وَمِن ذلكَ:
أَنَّ صَلَاةَ الجَمَاعَةِ التي أَمَرَ اللهُ بِها لَا تَنْطَبِقُ إلَّا عَلَى
مَنْ أَدَّاها فِي الْمَسْجِدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالى: ( فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ )، والْمُرادُ
بِالبُيُوتِ: الْمَساجِدُ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا
إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عِبادَ اللهِ:
وَمِنْ أَحْكامِ الْمَساجِدِ: عِظَمُ ثَوابِ
طَلَبِ العِلْمِ وتَعْلُّمِ القُرْآنِ وحفْظِهِ في الْمَساجِدِ، وأَنَّ ذلكَ
خَيْرٌ مِن الدُّنْيا وَما فِيها، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلمَ
لِأَصْحابِهِ: ( فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ كُلَّ
يَوْمٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَه مِنْ ثَلاَثٍ،
وأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَه مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ
)، وَضَرَبَ النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم الْمَثَلَ بِالناقَةِ، لأَنَّ
الإِبِلَ مِنْ خِيارِ أَمْوالِ العَرَبِ. وأَنَّ تَعَلُّمَ آيَةٍ واحِدَةٍ، خَيْرٌ
مِنْها، وَتَعَلُّمَ ألْفِ آيَةٍ، خَيْرٌ مِنْ ألْفِ ناقَةٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ
هَذِهِ حالُهُ مَعَ القُرْآنِ كُلَّ يَوْمٍ في الْمَسْجِدِ؟ ما هِيَ الأُجُورُ
العَظِيمَةُ التي تَنْتَظِرُهُ يَوْمَ يَلْقَى اللهَ؟
اللَّهمَّ وَفِّقْنا لِلعَمَلِ بِطاعَتِكَ،
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللَّهُمَّ
عَلِّمْنَا ما يَنْفَعُنا وَاْنَفْعَنا بِمَا عَلَّمْتَنا وَفَقِّهْنَا في دِينِكَ
يَا رَبّ العَالَمِين، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك
وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، واحفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام
قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم وفق وُلاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً
لدينك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم
اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك
سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
. |