مَوْعِظَةٌ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الْمُسَّلِمُون: اتَّقُوا اللهَ
تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الرَّاحَةَ الحَقِيقِيَّةَ، وَالفَرَحَ الذي لَا
يَفُوقُهُ فَرَحٌ: عِنْدَمَا تَدْخُلُوا الجنَّةَ، عِنْدَ ذلكَ يَشْعُرُ الْمؤمِنُ
بِالأَمانِ وَطَعْمِ الرَّاحَةِ التي لَيسَ بَعْدَهَا نَصَبٌ وَلَا وَصَبٌ. والفَرَحِ
الذي لَا يُنَغِّصُ عَلَيْهِ حُزْنٌ وَلَا تَوَقُّفٌ وَلَا انْقِطاعٌ.
وَأَمَّا
رَاحَةُ الدنيا فَغَيْرُ مَأْمُونَةٌ وَلَا مُسْتَمِرَّةٌ، وَفَرَحُ الدنيا
لَابُدَّ وَأَنْ يَعْقُبَهُ مَا يُنَغِّصُه، لِأَنَّ الدنيا لَا تَدُومُ عَلَى
حالٍ، وَهِي مَعَ ذلك مَتَاعُ الغُرُورِ، وَلَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ
بَعُوضَةٍ.
فَيَا مَنْ
رَزَقَهُ اللهُ الْمالَ وَالغِنَى، قَدِّم لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ،
وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِن الدُّنْيا، وَلَيْسَ أَمَامَكَ مِمَّا جَمَعْتَ
شَيْءٌ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مَهْمَا وَفَّرْتَ لِنفْسِكَ مِن النَّعِيمِ
والرَّاحَةِ، فَإِنَّكَ ذاهِبٌ وَتَارِكُه، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَى.
وَيَا مَنْ حُرِمَ السَّعَةَ فِي الرِّزْقِ،
وَكَثُرَ عَلَيْهِ البَلَاءُ، لَا تَحْزَنْ عَلَى فَوَاتِ الدنيا، فَإِنَّ
عُمُرَها قَصِيرٌ، وَهِيَ مَتَاعُ الغُرُورِ.
قال
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( يُؤْتَى
بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدنيا، مِنْ أَهْلِ النارِ، يَوْمَ القِيامَةِ. فَيُصْبَغُ فِي
النارِ صَبْغَةً. ثُمَّ يُقالُ: يَا ابْنَ آدَمَ! هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟
هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى
بِأَشَدِّ الناسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيا، مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ. فَيُصْبَغُ
صَبْغَةً فِي الجَنَّةِ، فَيُقالُ لَه: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا
قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا واللهِ يَا رَبِّ، مَا
مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ. وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ).
فَهَذانِ
رَجُلانِ: أَحَدُهُمَا: كافِرٌ،
وَزِيادَةً عَلَى ذَلِكَ، لَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدنيا مِثْلَه، مُنْذُ
أَنْ خُلِقَتْ الدُّنْيا إِلَى قِيامِ الساعَةِ، فِي الثَّراءِ والنَّعِيمِ
والتَّرَفِ وَتَحْقِيقِ الرَّغباتِ والشَّهَواتِ والْمَلَذَّاتِ.
ثُمَّ
يُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً - أَيْ يُغْمَسُ فِي النارِ لَحْظَةً يَسِيرَةً -
ثُمَّ يُسْأَلُ بَعْدَ هذِهِ الصَّبْغَةِ: ( هَلْ
رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ ) فَيَنْسَى كُلَّ
ذَلِكَ النَّعِيمَ الذي كانَ فِيه، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِالقَسَمِ، فَيَقُولُ: لَا
وَاللهِ يَا رَبِّ. فَنَسِيَ الأَمْوالَ، وَنَسِيَ القُصُورَ، وَنَسِيَ الْمَرَاكِبَ
الفَارِهَةَ، وَالْمَآكِلَ وَالْمَشَارِبَ الهَنِيَّةَ، واللِّباسَ النَّاعِمَ،
وَالْمُتْعَةَ وَالْمَلَذَّاتِ والشَّهَواتِ، والجاهَ والْمَكَانَةَ. ذَهَبَ
ذَلِكَ كُلُّهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، مُقَابِلَ غَمْسَةٍ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،
النارِ التي فِيهَا مِن العَذابِ الأَلِيمِ مَالَا يَخْطُرُ عَلَى بالِ البَشَرِ.
فَإِلَى اللهِ نَشْكُو ضَعْفَنَا، وإِلَى اللهِ نَشْكُو مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ
غَفْلَةٍ فِي قُلُوبِنَا.
ثُمَّ قال عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسلامُ: ( وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الناسِ بُؤْسًا فِي الدنيا مِنْ أَهْلِ
الجَنَّةِ ): لَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا مُنْذُ أَنْ
خُلِقَتْ إِلَى قِيامِ الساعَةِ أَبْأَسَ مِنْه - اِبْتِلاءَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ
وَمُتَنَوِّعَةٌ - مْرَضٌ وَفَقْرٌ وَمِحَنٌ. لَكِنَّهُ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ. لَمْ
يَحْمِلْهُ فَقْرُهُ عَلَى اللُّجُوءِ إِلَى الحَرَامِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ
الدُّنْيا أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ وَمَتَاعٌ زَائِلٌ. وَلَمْ يَحْمِلْهُ مَرَضُهُ عَلَى
الجَزَعِ وَالسُّخْطِ أَوْ التَّدَاوِي بِالحَرَامِ، وَلَمْ يَحْمِلهُ حِرْمانُهُ
مِنْ مُتَعِ الدُّنْيا عَلَى التَّخَلِّي عَنْ دِينِهِ وَأَمانَتِهِ وَعِفّتِه
وَنَزَاهَتِهِ.
ثُمَّ
يُغْمَسُ غَمْسَةً فِي الجَنَّةِ، ثُمَّ يُقالُ لَهُ: ( هَلْ
رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ ) ، فَيَنْسَى
كُلَّ ذلكَ البُؤْسَ، حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ، وَيُؤَكِّدُ ذلِكَ
بِالْقَسَمِ: ( لَا وَاللهِ ). وَذَلِكَ
حِينَمَا يَرَى النَّعِيمَ الحَقِيقِيَّ بِعَيْنِهِ!! يَرَى نَعِيمًا يَفُوقُ
الوَصْفَ والخِيَالَ.
وَلِذَلِكَ
وَصَفَهُ اللهُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ بِوَصْفٍ بَلِيغٍ جامِعٍ فَقال: ( أَعْدَدْتُ لِعِبادِيَ الصالِحِينَ، مَالَا عَيْنٌ رَأَتْ،
وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ).
فَيَا
عَبْدَاللهِ: لِتَكُنِ الآخِرَةُ هَمَّكَ، فَإِنَ مَنْ كانَتْ
الآخِرَةُ هَمَّه، لَمْ يَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيا، وَلَمْ يَغْفَلْ عَنْ طاعَةِ
اللهِ، وَلَمْ يَتَجَرَّأْ عَلَى مَعْصِيَةِ، وَلَمْ يَتَساهَلْ فِي حُقُوقِ
عِبادِ اللهِ. قالَ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا
إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عِبادَ
اللهِ: إِنَّ فُتُورَ القَلْبِ لَهُ أَسْبابٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ أَعْظَمِ
أَسْبابِهِ: الرُّكُونُ إلى الدُّنْيا
وَالغَفْلَةُ عَنْ حَقِيقَتِها وَحَقَارَتِها، وَالغَفْلَةُ أَيْضًا عَنْ الْمَوْتِ
وَمَا بَعْدَه والجَنَّةِ والنارِ.
وَقَدْ
بَيَّنَ اللهُ تَعالَى فِي كِتابِهِ وَبَيَّنَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي
سُنَّتِهِ أَنَّ العَبْدَ لَا يُقْبِلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَى طاعَتِهِ
وَيَتَّقِيهِ حَقَّ تَقْواهُ، إِلَّا إذا كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ. أَلَا
تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَبَطَ ذَلِكَ بِتَذَكُّرِ اليَوْمِ الآخِرِ؟
فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعالَى أَنَّهُ لَا يُحافِظُ عَلَى الصَّلاةِ إِلَّا مَنْ
تَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَه، قال تعالى: ( وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ *
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ )، فَكُلُّ مَنْ قَصَّرَ فِي
هذِه العِبادَةِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِيمَانَهُ بِاليَوْمِ الآخِرِ
ضَعِيفٌ. وَقَالَ تَعالَى فِي شَأْنِ التَمَسُّكِ بِهَدْيِ النبِيِّ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرْجُو اللَّهَ واليَوْمَ الآخِرَ ).
فَكُلُّ مَنْ قَصَّرَ فِي التَمَسُّكِ
بِالسُّنَّةِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِيمانَهُ بِاليَوْمِ الآخِرِ
ضَعِيفٌ. وَقال رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فِي شَأْنِ حِفْظِ
اللِّسانِ: ( مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ
الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ). فَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا يُسْخِطُ اللهَ مِنْ كَذِبٍ
أَوْ غِيبَةٍ أَوْ سُخْرِيَةٍ أَوْ سَبٍّ أَوْ قَذْفٍ أَوْ إِصْدارِ شائِعاتٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْخِطُ اللهَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِيمانَه بِاليَوْمِ
الآخِرِ ضَعِيفٌ.
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العَبْدَ
يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى اللهِ كَمَا يَنْبَغِي وَيَكُفَّ عَنْ مَعْصِيَةِ
اللهِ إلَّا إذا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِاليَوْمِ الآخِرِ، وِبِالْمَوْتِ وَمَا
بَعْدَهَ.
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَل الدُنْيا أَكْبَرَ
هَمِّنَا ولا مبلغَ عِلْمِنا، واستعملنا في طاعتِك، اللهم خلّصنا من حقوقِ خلقك
وبارك لنا في الحلال من رزقك، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا
فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا
عسيراً إلا يسرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح
إلا أعنتنا على قضائها ويسّرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظنا بالإسلام
قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا
حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم
احقن دماء المسلمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، واجعلهم يداً
واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لعدوهم منةً عليهم، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين
وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك
وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم
وفق ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيدهم بتأييدك، واجعلهم أنصاراً لدينك وارزقهم البطانة
الصالحة الناصحة يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|