فَضْلُ
اللهِ وعَدْلُه
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناس:
اتقُوا اللهَ تعالى، واسأَلُوه مِن فَضْلِه، فَإِنَّه الواسِعُ العَلِيم، ذُو
الفَضْلِ العَظِيم، وانْظُرُوا في كِتابِ رَبِّكُم وسُنَّةِ نَبِيِّكُم صلى الله
عليه وسلم وما فِيهِما مِن الأَدِلّةِ عَلَى سَعَةِ فَضْلِ اللهِ، وكَمالِ
عَدْلِه، فَإِنَّ مَن تَأَمَّلَ الأَدِلَّةَ التي وَرَدَ فيها الجَمْعُ بَيْنَ
فَضْلِ اللهِ وعَدْلِه، ولَهُ قَلْبٌ حاضِرٌ وأُذُنٌ واعِيَة، عَرَفَ يَقِيناً
بِأَنَّ اللهَ تعالى، أَرْحَمُ مِن الوالِدَةِ بِوَلَدِها، ومِن الإِنسانِ
بِنَفْسِه.
وَمِن الأَدِلَّةِ الوارِدَةِ في هذا البابِ
العَظِيم: قَوْلُ اللهِ تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ). فهذِهِ
الآيَةُ العَظِيمَةُ جَمَعَ اللهِ تعالى فيها بَيْن فَضْلِهِ وعَدْلِه. فَأمَّا
فَضْلُهُ فَمَأْخُوذٌ مِن قَوْلِه: ( أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ). حَيْثُ أَخْبَرَ اللهُ عَن فَضْلِهِ
وكَرَمِه، ولُطْفِهِ وإِحْسانِه، أَنَّ المُؤْمِنَ إِذا اتَّبَعَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ
في الإيمانِ، فإِنَّه سُبْحانَه يُلْحِقُهُم بِه في المَنْزِلَةِ وإِن لَمْ
يَبْلُغُوا عَمَلَه لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِم، وذلك بِأَن يَرْفَعَ ناقِصَ
العَمَلِ بِكامِلِ العَمَل، ولا يَنْقُصُ ذلك مِن عَمَلِه ومَنْزِلَتِه. وهذا
فَضْلُ اللهِ تعالى على الأَبْناءِ بِبَرَكَةِ عَمَلِ الآباء. وأَمَّا فَضْلُهُ
على الآباءِ بِبَرَكَةِ دُعاءِ الأبناء، فَقَدْ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: ( إِنَّ اللهَ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصالِحِ في الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يا رَبّ، أَنَّا لِي هذِه؟ فَيَقُول: بِاسْتِغْفارِ ولَدِك لك ). فَيَا
لَه مِن فَضْلٍ عَظِيمِ لِهَذِه الأُسْرَةِ التي عاشَت على الإيمانِ والعَمَلِ
الصالِح، ويا لَهُ مِن مُحَفِّزٍ كَبير لِلآباءِ على تَرْبِيَةِ أَبنائِهِم على
الإيمانِ، كَيْ يَلْحَقُوا بِهِم بَعْدَ مَوتِهِم، فَإِنّ هذِه الآيةَ وغَيْرَها
مِن الآياتِ تَحْمِلُ العَبْدَ على أَنْ يَكونَ هَمُّهُ الأَكْبَرُ هُو
الاِجْتِماعَ مَع أَهْلِهِ وأولادِه وأَحِبَّتِهِ في الجَنّة، لأنّ الدنيا
زائِلَة، والفُرْقَةَ بالمَوْتِ حاصِلَةٌ لابُدّ مِنْها، لابُدّ وَأَنْ يُفارِقَ
العَبْدُ أَهْلَه، يُفارِقُ والِدَيْهِ، وزَوجَتَه وأولادَه، وأصْفِياءَه، لكِنَّه
فِراقٌ مُؤَقَّتٌ يَعْقُبُه الاِجْتِماعُ الدائِمُ الخالِدُ فِي الجَنّة. ولكن
بِشَرطِ أَنْ يَكُونُوا مِن أَهْلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصالِح. لِأنّ الخسارةَ
الحقيقِيَّةَ، هِي أَنْ يَخْسَرَ العَبْدُ نَفْسَه وَأَهْلَه في الآخِرَة، كَما
قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ).
فاحْرِصُوا يا عِبادَ اللهِ على تَربِيَةِ مَنْ تَحَت وِلايَتِكُم تَرْبِيَةً
صالِحةً، فَإِنَّ الدُّنيا زائِلَةٌ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ الله ِتعالى: ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُو أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ ).
وأمّا العَدْلُ المَأْخُوذُ مِن هذه الآيةِ، فَهُوَ قَوْلُه: ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )، أي: مُرْتَهَنٌ
بِعَمَلِه، فلا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَد، ولا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ
غَيْرِهِ مِن الناس، سَواءً كانَ أَبًا أَو ابْنًا.
فانْظُرُوا يا عِبادَ اللهِ كَيْفَ جَمَعَت
هذه الآيَةُ بَيْن فَضْلِ اللهِ وعَدْلِه، فالفَضْلُ هَو أَنْ يُلْحِقَ الأَبناءَ
بالآباءِ، والآباءَ بالأبناءِ، إذا كانُوا على الإيمانِ والعَمَلِ الصالِح.
والعَدْلُ هو: أَنْ لا يُؤَاخِذَ أَحَداً بِذَنْبِ أَحَد.
ومِن الأَدِلَةِ التي جَمَعَت بَيْنَ فَضْلِ
اللهِ وعَدْلِه: قَوْلُه تَعَالَى: ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ ). وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا أَحْسَنَ
أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ
بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ ). فَتَأَمَّلُوا يا عِبادَ اللهِ، لَو أَنَّ
الحَسَنَةَ بِمِثْلِها؟!! وأَعْجَبُ مِن هذا كُلِّه: أَنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ، وأَعْجَبُ مِنْه أَيْضاً: أَنّ العَبْدَ إِذا تابَ تَوْبةً
نَصُوحا، وَعَمِلَ صالِحا، فإنَّ اللهَ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِه حَسنات. فَما الذي
تُريدُهُ بَعْدَ ذلِك يا عَبْدَ الله؟ وما هُوَ عُذْرُكَ إذا رَجَحتْ سَيِّئَاتُكَ
على حَسَناتُك؟!! وصَدَقَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم إذْ قال: ( ولا
يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إلا هالِك ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ
الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ
السِّمَاواتِ وَالأَرْضِ، جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى
وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِِّ شَيءٍ قَدِير،
مَا يَفْتَحِِ اللهُ للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:-
عِبادَ الله: لَو أَنَّ اللهَ تعالَى عامَلَ
الناسَ بِما يَسْتَحِقُّون، لَهَلَكُوا جَمِيعاً،كما قال تعالى: ( وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ ). ولكِنَّه يُؤَاخِذُهُم بِبَعْضِ ما كَسَبُوا. وكذلك لَو أَنّ اللهَ
تعالَى عَامَلَكَ أَيُّها العَبْدُ الضَّعِيفُ بِعَدْلِه، لَكانَت نِعْمَةٌ
واحِدَةٌ تَسْتَوعِبُ جَمِيعَ أَعْمالِك التي عَمِلْتَها. فَإيَّاك أَنْ
تَغْتَرَّ، وَأَكْثِرْ مِن سُؤَالِ اللهِ مِن فَضْلِه، واحْرِصْ عَلَى مُلازَمَةِ
قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا
تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ). فَإِنَّها كَلِماتُ إِخْلاصٍ وتَوحِيدٍ, وشِدَّةِ
افْتِقارٍ واحْتِياجٍ إلى المَوْلَى جَلَّ وعَلا، وتَبَرُّءٌ مِن الحَوْلِ
والقُوَّةِ، وهذا مِن أسبابِ اسْتِجابَةِ الدُّعاءِ وحُصُولِ المَطْلَوبِ،
والنَّجاةِ مِن المَكْرُوب.
اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ
نَرْجُو فَلَا تَكِلْنِا إِلَى أَنْفُسِنا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لَنا
شَأْنَنا كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، اللهم أَلِّفْ بينَ قُلُوبِنا وأصلِحْ
ذاتَ بينِنا واهدنا سُبُلَ السلام, ونَجَّنا من الظُّلُماتِ إلى النُّور يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي
فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير
والموت راحة لنا من كل شر، اللهم
آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل
باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع
رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم
احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها،
اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في تدميره يا
قوي يا عزيز، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها،
وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا
الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت،
أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى
حين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث
واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أغثنا، غيثاً مُغِيثاً، هنيئاً
مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسقِ بلادك وعبادك
وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت، اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً
تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به الحاضر والباد، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك،
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من جميع ذنوبنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم
أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|