مِن
وصايا الرسولِ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداع
إِنَّ الْحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا
أَنَّكُم في شَهْرٍ مُعَظَّمٍ، شَهْرِ ذي الحِجَّة، وهذا اليومُ هُو ثالِثُ
أيَّامِ التَّشْرِيقِ، وآخِرُها لِمَن أرادَ أَنْ يَتَأَخَّرَ مِن الحُجَّاج، وهُو
آخِرُ أيَّامِ التَكْبيرِ وذَبْحِ الهَدْيِ والأضاحِي.
أَيُّها المُسلِمون: أَفْضَلُ الْخُطَبِ على
الإطلاقِ، وأَتَمُها وأَوفاها، هي خُطَبُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حيثُ
اشْتَمَلَت على حُسْنِ البيانِ والإِفْهامِ والنُّصْحِ بألفاظٍ قَلِيلَةٍ
يَسِيرَةٍ مُبارَكة. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( بُعِثْتُ بِجَوامِعِ
الكَلِم ). وجوامِعُ الكَلِمِ في هذا الحَديثِ تَشْمَلُ أَمْرَين، الأوَّل:
القرآنُ الكَريم، فإنه الغايَةُ في إيجازِ اللَّفْظِ، واتِّساعِ المعانِي.
والثاني: الكَلامُ المُوجَزُ، القَلِيلُ في ألْفاظِه، الكَثِيرُ في مَعانِيه.
ومَنْ تَأَمَّلَ خُطَبَ رَسُولِ اللهِ صلى
الله عليه وسلم في حَجَّةَ الوَداعِ، رأَى مِن ذلكَ العَجَبَ، فإِنه لَمْ
يَقْتَصِرْ على خُطْبَةٍ واحِدةٍ - خُطْبَةِ عَرَفَةَ - كما يَظُنُّ البَعْضُ، اسْتَمَرَّ في خُطَبِهِ حتى كان آخِرُها ثانيَ أيامِ التشريق.
لأن الْحَجَّ أَكْبَرُ
مَجامِعِ المُسلِمين، فكان مِنَ الْمُناسِبِ أن تَكْثُرَ فيه الخُطَبُ
والتَّذْكِير. ومِن جَوامِعِ كَلِمِ الرَّسُولِ صلى اللهُ عليه وسلم، وَوَصاياهُ
في حَجَّةِ الوَداع، قَولُه: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ
النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ
مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ
اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الخَطايا والذُّنُوب ). وَصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ
جامِعَةٌ مُشْتَمِلِةٌ عَلى الخَيْرِ الدِّينِي ظاهِراً وباطِناً.
فَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ الناسُ على
دِمائِهِم وأموالِهِم: لِأنّ الإيمانَ إذا تَمَكَّنَ في القَلْبِ، أَوْجَبَ
لِصاحِبِه القِيامَ بِحُقُوقِ الإيمانِ التي مِن أَهَمِّها: رِعايَةُ الأماناتِ،
والصِّدْقُ في الْمُعامَلاتِ، والوَرَعُ عَن ظُلْمِ الناسِ في دِمائِهِم
وأَمْوالِهِم، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا إِيمانَ لِمَن لا أَمانَةَ لَه ).
فَإِذا كُنْتَ غَيْرَ مَأْمُونِ الجانِبِ عَلَى الأَموالِ والدِّماءِ والأَعْراضِ,
ولَسْتَ مَحَلاًّ لِلثِّقَةِ، بِسَبَبِ ما عِنْدَكَ مِن خِيانَةٍ وغَدْرٍ
وتَلاعُبٍ وحِقْدٍ وحَسَدِ، فَكيفَ يَتِمُّ الإيمانُ عِنْدَك؟.
والْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُون مِن
لِسانِه ويَدِه: وذَلِكَ أَنّ الإسلامَ الحَقِيقِيَّ هُو الاسْتِسْلامُ للهِ
وتَكْمِيلُ عُبُودِيَّتِهِ والقِيامُ بِحُقُوقِ المسلمين، ولا يَتِمُّ الإسلامُ
حَتَّى يُحِبَّ لِلْمُسْلِمين ما يُحِبُّ لِنَفْسِه، ولا يَتَحَقَّقُ ذلك إلا
بِسَلامَتِهِم مِن شَرِّ لِسانِه وشَرِّ يَدِه، فَمَن لَمْ يَسْلَم المُسلمون مِن
لِسانِه أَو يَدِه كَيْفَ يَكُونُ قائماً بِالفَرْضِ الذي عَلَيْهِ لِإخْوانِه
المسلمين؟. وفِي هذا الزَّمانِ مَعَ هذا الانْفِتاحِ الْمُخْيفِ ومَعَ هذِه
الأجْهِزَةِ الذَكِيَّةِ وشَبَكاتِ التَّواصُلِ، سَهُلَ إيصالُ الشَّرِّ بَجَمِيعِ
صُوَرِهِ، فَأَرُوا اللهَ مِن أَنْفُسِكُم خَيرا، وإيَّاكُم أَن تَكْتُبُوا أَو
تَقُولُوا أو تَنْشُرُوا إلا ما فِيهِ خَيْرٌ ومَنْفَعَة، فإِنَّها فِتْنَةٌ
واخْتِبارٌ لَكُم.
والْمُجاهِدُ مَن جاهَدَ نَفْسَه في طاعةِ
الله: وذلِك أَنَّ النَّفْسَ مَيَّالَةٌ إلى الكَسَلِ عن الخَيْراتِ، أَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ، سَرِيعَةُ التَّأَثُّرِ عِنْدَ المَصائِبِ، وتَحتاجُ إلى صَبْرٍ
وجهادٍ في إلزامِها طاعةَ اللهِ، وثَباتِها عليها، ومُجاهَدَتِها عن مَعاصِي الله،
وَرَدْعِها عَنْها، وجِهادِها عَلَى الصبرِ عِنْدَ المَصائِبِ. وهذِه: هِي
الطاعاتُ، امْتِثالُ المَأْمُورِ واجْتِنابُ المَحْظُورِ، والصبرُ على المَقْدُور.
فالْمُجاهِدُ حَقِيقَةً مَن جاهدَها على هذِه الأُمُورِ لِتَقُومَ بِواجِبِها
وَوَظِيفَتِها. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَفْضَلُ الجهادِ أَنْ
يُجاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وهَوَاه ). وإِذا قَصَّرَ الْمُسْلِمُ في جِهادِهِ
لِنَفْسِه، وقَصَّرَ الْمُسلمون في جِهادِ أَنْفُسِهِم ضَعُفُوا عن جِهادِ
أعدائِهِم، فَيَحْصُلُ بِذلك ظُهُورٌ لِأَعْدائِهِم عليهِم. قال ابْنُ تَيْمِيَّةَ
رحمهُ الله: ( وَحَيْثُ ظَهَرَ الكُفَّارُ، فإنَّما ذلك لِذُنُوبِ المُسلمين التي
أَوْجَبَتْ نَقْصَ إيمانِهِم، ثُمَّ إذا تابُوا بِتَكْمِيلِ إيمانِهِم، نَصَرَهُم
الله ). مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ أَبوابِ النَّصْرِ على الأعداءِ، هو
الانتِصارُ على النَّفْسِ والشَّيطانِ والهَوَى.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
أَيُّها المُسْلِمون: ثُمَّ خَتَمَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الحَدِيثَ بِقَوْلِهِ: ( والْمُهاجِرُ مَن هَجَرَ
الخَطايا والذُّنوبَ )، وهذِه الْهِجْرَةُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِم، لا
تَسْقُطُ عَن كُلِّ مُكَلَّفٍ في كُلِّ حالٍ مِن أحوالِه، فَإِن اللهَ حَرَّمَ
عَلَى عِبادِه الشِّرْكَ والبِدَعَ، وحَرَّمَ انْتِهاكَ المُحَرَّماتِ والإقدامَ
عَلَى المَعاصي والذُّنُوب، وأوجَبَ عَلَيهِم الإقبالَ على طاعتِهِ واتِّباعَ
رسولِه صلى الله عليه وسلم، وهِيَ هِجْرَة تَتَضَمَّنُ (مِن) و(إِلى) فَيُهاجِرُ
بِقَلْبِهِ مِن مَحَبَّةِ غَيْرِ اللهِ إلى محبَّتِهِ، ومِن عُبُودِيَّةِ غَيْرِ
اللهِ إلى عُبُودِيَّتِه، ومِن خَوْفِ غَيْرِ اللهِ ورَجائِه والتَّوَكُّلِ
عَلَيْهِ إلى خَوْفِ اللهِ ورَجائِه والتوَكُّلِ عَلَيْه، ومِن دُعاءِ غَيْرِ
اللهِ وسُؤَالِهِ والْخُضُوعِ لَه والِاستِكانَةِ لَهُ إلى دُعائِه وسُؤالِهِ والْخُضُوعِ
لَهُ والذُّلِّ لَه والاِستِكانَةِ لَهُ. ومِن غِشْيان الذُّنُوبِ وارتكابَِها إلى
التَّوْبَةِ مِنْها، والإقبالِ على اللهِ وَحْدَه خَوْفاً وطَمَعاً وخُشُوعاً
وتَذَلُّلاً. واللهُ عَزَّ وَجَلّ نَهَى عَن الشِّرْكِ، وعَن اتِّباعِ الأَهْواءِ،
وعَن فِعْلِ الْمَعاصِي والذُّنُوبِ، فَالْمُهاجِرُ حَقًّا مَن هَجَرَ هذِه
الأُمُورَ وأَقْبَلَ على اللهِ وَحْدَهُ مُخْلِصاً، ولِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم
مُتابِعاً، ولِلذُّنُوبِ والمَعاصِي مُجانِباً ومُباعِداً.
فَيَا لَهُ مِن حَدِيثٍ جامِعٍ لِخَيْرَيِ
الدُّنيا والآخِرةِ، ولكن أَكْثَرَ الناسِ
لا يَعْلَمُون.
اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام, اللهم
حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا
من الراشدين، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا
مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال
المسلمين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم
اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم،
ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم
احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم
المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن
المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين،
اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها
وعزتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات،
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|