تَسْخِيرُ
الشَّيْءِ فِي غَيْرِ ما خُلِقَ لَه
إِنَّ الْحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
أَيُّها الناس: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ خَصائِصِ سُنُنِ اللهِ في الْخَلْقِ وفي الأنْفُسِ، أَنَّها ثابِتَةٌ لا تَتَغَيَّرُ ولا تَتَبَدَّل، ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ). وَأَنَّ
أَحْكامَ اللهِ تعالى في مَخْلُوقاتِهِ، والْحِكَمَ والأَسْرارَ التي مِن أَجْلِها
وُجِدَت، إِنَّما جاءَت مِن لَدُن حَكِيمٍ خَبير، فَلا يَنْبَغِي مُخالَفَتُها، ولا الغَفْلَةُ عنها. ومِمَّا يَقَعُ فيه كَثيرٌ مِن الناسِ اليَوْمَ مِن الْمُخالَفاتِ
في هذا الأَمْرِ العَظِيم: " تَسْخِيرُ الأَشْياءِ في غَيْرِ ما خُلِقَت لَه، واسْتِعْمالُها في غَيْرِ الْحِكْمَةِ التي مِنْ أَجْلِها خُلِقَت ". فإنَّ
ذلِك مِن أَعْظَمِ أَسْبابِ فَسادِ نِظامِ البَشَرِيَّةِ، وعَدَمِ انْتِظامِ
حَياتِهِم ومَصالِحِهِم.
فَلَوْ نَظَرْنا عَلَى سَبِيلِ المِثالِ لا
الْحَصْرِ إلى اللَّيْلِ والنَّهار: فإِنَّهُما آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ
العَظِيمَة، حَيْثُ جَعَلَ اللهُ اللَّيْلَ سَكَناً، ولِباساً، وَوَقْتاً
لِلراحَةِ والسُّكُونِ والنَّومِ. وجَعَلَ النَّهارَ لِمَعاشِ الناسِ، وانْتِشارِهِم، وسَعْيِهِم في الأرضِ وابْتِغائِهِم مِن فَضْلِه. إضافَةً إلى أَنَّهُما مَحَلُّ
التَذَكُّرِ والاعْتِبارِ والتَفَكُّرِ في عَظَمَةِ اللهِ وِشُكْرِه عَلَى
نِعَمِه. قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا
وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ). وقال تعالى: ( وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ). فَيَنْبَغِي
لِلْمُؤمِنين أَنْ يَتَفَكَّرُوا في ذلك، ثُمَّ يَنْظُرُوا إلَى أَحْوالِهِم
وأَحْوالِ العالَم، كَيْفَ تأَثَّرُوا بَدَنِيًّا ونَفْسِيًّا وسُلُوكِيًّا
واجْتِماعِيًّا عِنْدَما خالَفُوا هَذِهِ الْحِكْمَةَ، وسَخَّرُوها في غَيْرِ ما
خُلِقَت لَه، فَجَعَلُوا اللَّيْلَ كالنهارِ، بَلْ ومِنْهُم مَن عَكَسَ الأَمْرَ
فَجَعَلَ لَيْلَهُ نَهاراً، ونهارَه لَيْلاً!! إِنَّ مَفْسَدةَ ذلكَ يُدْرِكُها
كُلُّ عُقَلاءِ بَنِي آدَمَ مُسْلِمِهِم وكافِرِهِم. ولا يَعْنِي ذلك أَنَّ
العَمَلَ بِاللَّيْلِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْه، بَلْ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ
ومُتَيَسِّر، خُصوصاً في زَمانِنا هذا، وإِنَّما الْمُرادُ أَنَّ إشغالَ الناسِ
أَنْفُسَهُم باللَّيْلِ مُخالِفٌ لِلْحِكْمَةِ التي مِن أَجْلِها خَلَقَ اللهُ
اللَّيْلَ والنهار. وإذا كان مُخالِفاً لَها فَلابُدَّ وأَنْ يَفْسُدَ نِظامُ
حَياتِهِم، وعَمَلِهِم ونَشاطِهِم وسُلُوكِيَّاتِهِم ونَفْسِيَّاتِهِم. وَقَدْ
أُلِّفَت رَسائِلٌ وكُتِبَت مَقالاتٌ كَثيرةٌ مِن مُسْلِمِين وغَيْرِ مُسْلِمين
بِهذا الْخُصُوصِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَخاطِرِ التي تَحْصُلُ بِسَبَبِ
مُخالَفَةِ الناسِ لِهذهِ السُّنَّةِ الإلَهِيَّة. ولَيْسَ الأَمْرُ خاصًّا
باللَّيْلِ والنَّهارِ، بَلْ هُو جارٍ في كُلِّ مَخْلُوقاتِ اللهِ، إذا
اسْتُعْمِلَت في غَيْرِ ما خُلِقَت له.
واسْتَمِعُوا يا عِبادَ اللهِ إِلى ما يُثِيرُ
العَجَبَ في مَوْعِظَةٍ بَلِيغَةٍ وخَبَرِ بَهِيمَةٍ أَنْطَقَها اللهُ تعالى الذي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، تَحْمِلُ لِلناسِ رسالَةً بِهذا الْخُصُوص، وهِيَ قَوْلُ
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( بَيْنَما رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ
حَمَلَ عَلَيْها، فالتَفَتَتْ إِلَيْه فَكَلَّمَتْهُ، فقالت: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ
لِهذا، وَلِكِنِّي خُلِقْتُ لِلْحَرْث ). الله أكْبَر!! إنَّه دَرْسٌ إيمانِيٌّ
مِنْ بَهِيمَةٍ حِينَما اسْتُعْمِلَت في غَيْرِ ما خُلِقَت لَه، أنْطَقَها اللهُ، وأَمَرَ نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم أَن يُبَلِّغَ ذلك لِلْعالَم لِيَسْتَفيدَ
مِنها صاحِبُ القَلْبِ الْحَيّ. فتَأَمَّلُوا يا عِبادَ اللهِ قَوْلَها: "
إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهذا " وَلَمْ تَقُلْ إِنِّي لا أَقْدِرُ عَلَى
حَمْلِكُم والسَّيْرِ بِكُم، وحَمْلِ أَثْقالِكُم والسَّفَرِ بِكُم، فَإِنَّها
تَسْتَطِيعُ ذلك، لَكِنَّها لَمَّا كانَت مُهِمَّتُها غَيْرَ ذلك، أَنْطَقَها
اللهُ تعالَى بِالْحِكْمَةِ التي مِن أَجْلِها خُلِقَت، وَلِتُذَكِّرَكَ أَيُّها
الإنسانُ بِالْحِكْمَةِ التي مِن أجْلِها خَلَقَكَ الله. فَإنّ اللهَ خَلَقَكَ
لِأَمْرٍ واحِدٍ فقط، ألا وهُو عِبادَتُهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وامْتِثالُ
أَوامِرِهِ، واجْتِنابُ نَواهِيه، فلا تَبْحَثْ عَن سَبَبٍ لِوُجُودِكَ غَيْرَ هذا
السَّبَب. ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ).
فَكُلَّما انْشَغَلْتَ بِدُنياكَ عن دِينِكَ، فَقْلْ: إِنِّي لَم أُخْلَق لِهذا.
وهذا هُو السِّرُّ في كَوْنِ الكُفَّارِ أَضَلَّ مِن الأَنعامِ، لِأَن الأَنعامَ
قامَت بِدَورِها الذي مِن أَجْلِهِ خُلِقَت، فاسْتَفادَ الناسُ مِن أَلْبانِها
وأَصْوافِها وأَوْبارِها وأَشْعارِها، وأَمَّا الكُفَّارُ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِما
خُلِقُوا مِن أَجْلِه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ
يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ السِّمَاواتِ وَالأَرْضِِ،
جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ
فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِِّ شَيءٍ قَدِير، مَا يَفْتَحِِ اللهُ
للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد:-
عِبادَ الله: ومِن الأَمْثِلَةِ أيْضًا: ما
يَتَعَلَّقُ بِشأْنِ الْمَرأةِ، فَإنَّها خُلِقَت سَكَناً لِزَوجِها، وَحَرْثًا
لَهُ، وراعِيَةً في بَيْتِها ومُلازِمَةً له، ومُرَبِّيَةً لِأَولادِها. هذه هي
مَسْئُولِيَّتُها عِنْدَما تَخْرُجُ مِن بَيْتِ والِدَيْها إلى بَيْتِ
الزوجِيَّةِ. وأَمَّا قَبْلَ خُرُوجِها إلى بَيْتِ زَوجِها فالتَحَفُّظُ عَلَيها
في بَيْتِ أَهْلِها أَشَدُّ، ولِذلِكَ مَنَعَها اللهُ مِن كُلِّ عَمَلٍ يَجْعَلُها
تَخْرُجُ عَن وَظِيفَتِها الْحَقِيقِيَّة. ولا يَعْنِي ذلك أَنَّها لا تَسْتَطِيعُ
العَمَلَ ولا تَقْدِرُ عَلَى ما يَقُومُ بِه الرجالُ فيما يَتَعَلَّقُ
بِقَوَامَتِهِم، بَل تَسْتَطيعُ ذلك، وتَسْتِطيعُ أَكْبَرَ مِن ذلك، تَسْتَطِيعُ
حَمْلَ البُنْدُقِيَّةِ، ورُكُوبَ الْمِدْفَعِيَّةِ، وقِيادَةَ الطائِرَة، ولَكِنَّها لَم تُخْلَقْ لِذلك، مَهْما اخْتَلَقُوا مِن الْمُبَرِّراتِ، فَإِنَّها
لَمْ تُخْلَقْ لِذلِك، ومَهْما هَوَّلُوا مِن شَأْنَ الْمَرْأَةِ، وتَجَرَّأُوا
عَلَى اللهِ ونادَوا بِالْمُساواةِ وبِحُقُوقِ الْمَرْأةِ الْمَسْلُوبَةِ، وحَتَّى
لو قالُوا بِأَنَّ عَجَلَةَ التَنْمِيَةِ تَتَطَلَّبُ ذلك، وأَنّ الزمَنَ
تَغَيَّر. فإنَّ سُنَنَ اللهِ لا تَتَغيَّر، وَهُوَ أَعْلَمُ مِن عِبادِه بِها
وبِوَظِيفَتِها ومَسْئُولِيَّتِها في الْحَياةِ. حَيْثُ جَعَلَ مَسْئُولَيَّتَها
العُظْمَى بَعْدَ أَمْرِها بِعِبادتِه في قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ( والْمرأَةُ
راعِيَةٌ في بَيْتِ زَوجِها وَوَلَدِه ). فَإذا خالَفَ الناسُ هذِه السُّنَّةَ
الإلَهِيَّةَ، فَسَدَ أمْرُهُم. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( اتَّقُوا
الدُّنيا واتَّقُوا النساء )، وقال أيضاً: ( كانت فِتْنَةُ بَني إسرائيلَ في النِساء
). فَماذا بعد هذا الوَعْظِ والبيان؟! أَنْ تَخْرُجَ أُمَّةٌ مِن دِينِها
وكَرامَتِها وسِيادَتِها وعِزَّتِها بِسَبَبِ النساء.
اللهم أَعِنَّا على ذكْرِكَ وشُكْرِكَ
وحُسْنِ عِبادَتِك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا
ذا الجلال والإكرام, اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك،
وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم
أصلح أحوال المسلمين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من
سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين،
اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم
المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن
المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين،
اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم وفقهم
بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك, اللهم ارزقهم البطانة الصالحة
الناصحة، اللهم حببّ إليهم الخير وأهله وبغضّ إليهم الشر وأهله وبصّرهم بأعدائهم
يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد
.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|