الاحتجاج
بالخلاف
إِنَّ الْحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، وآمِنُوا
باللهِ ورسولِه, واعْلَمُوا أنَّ مَصْدَرَ القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ
النبَوِيَّةِ واحِد، هو اللهُ وَحْدَه. وأَنَّ التَفْريقَ بينَهُما، تَفْريقٌ بينَ
اللهِ ورسولِه، لأنَّ طاعةَ اللهِ وطاعةَ رسولِهِ مُتَلازِمَتَان، فَمَن أطاعَ
الرسولَ فقد أطاعَ الله, قال تعالى: ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ ). وهذا يدُلُّ عَلى أَنَّ مَن استَدَلَّ بالسنةِ فقد عَمِلَ بالقرآن، ومَن لَم يَسْتَدِلَ بالسنةِ, لم يَعمَل بالقرآنِ وإِنْ زَعَمَ ذلك. قالَ تعالى: (
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ).
بَلْ أَخْبَرَ اللهُ تعالى أنَ العَبْدَ
ليسَ حُرًا في قَرارِه، عِندما يأتيهِ الأمْرُ مِن اللهِ أَوْ مِن رَسُولِه صلى
اللهُ عليهِ وسَلَّم، بَلْ يَجِبُ عَلَيه القَبُولُ والتسْلِيمُ والانقِيادُ، سَواءً وافَقَ رَغَبتَه أو خالَفَها، وسَواءً وُجِدَ خِلافٌ بين الفُقَهاء أَو لَم
يُوجَد, قال اللهُ تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ). أي، لا يجوزُ
لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ عِنْدَ حُكْمِ اللهِ وحُكْمِ رسولِه, أَنْ يَخْتارُوا
مِن الأَقْوالِ والآراءِ ما شاؤُوا، أو يَخْتارُوا ما يُوافِقُ أهواءَهُم, أَو
يَرُدُّوا الدليلَ احْتِجاجاً بالخِلافِ، بل يَجِبُ عَلَيِهِم أن ينقادُوا
للدَّلِيل. فإِنْ لَم يَفْعَلُوا فَهُم عُصاةٌ على بَصيرةٍ، ولَو كانُوا
يُنْسَبُون إلى العِلْمِ، بَلْ ضَلالُهُم واضِحٌ ظاهِرٌ بَيِّن, لأن اللهَ تعالى
قال: ( فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ).
قال أبو حَنِيفَةَ رحمه الله: " إذا
قُلْتُ قَوْلا يُخاِلفُ كِتابَ اللهِ تعالى، وخَبَرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم
فاتْرُكُوا قَوْلِي ". وقال مالكٌ رَحِمَه الله: " إنَّما أنا بَشَرٌ
أُخْطِئُ وأُصِيبُ، فَانْظُرُوا في رَأْيِي فَكُلُّ ما وَافَقَ الكِتابَ
والسُّنَّةَ فَخُذُوهُ وكُلُّ ما لَمْ يُوافِق الكِتابَ والسُّنَّةَ فاتْرُكُوه
". وقال الشافعيُّ رحمهُ الله: " إذا وَجَدْتُم في كِتابِي خِلافَ
سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقُولُوا بِسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى
الله عليه وسلم ودَعُوا ما قُلْت ". وقال أحمدُ رحمهُ الله: "
الإتِّباعُ، أن يَتَّبِعَ الرَّجُلُ ما جاء عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وعن
أصحابِه ".
ولِذلِكَ بَيَّن أحمدُ رحمهُ اللهُ أَنَّ
رَدَّ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سَبَبٌ لِلْفِتْنَةِ والعُقُوبَةِ، أَخْذًا بِقَولِهِ تعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
فَهذِهِ نَصِيحَةٌ مِن هؤُلاءِ الأَئِمَّةِ
الكِبارِ رحِمَهُم الله، وبَيانٌ مِنْهُم على أَنَّهُم قَدْ يُخْطِئُون في
التَّرْجِيحِ. واعْتِرافٌ مِنْهُم بِأنَّ أَقْوالَهُم لَيْسَت حُجَّةً، وتَحْذِيرٌ
مِنْ تَقْلِيدهِم في مُقابَلَةِ الدَّلِيل. إِلا في حالَةٍ واحدةٍ، وهِيَ إذا
تَعَذَّرَ على المُؤْمِن مَعْرِفَةُ الحَقِّ، فَإنَّه يُقَلِّدُ العالِمَ
المَوثُوقَ مِن بابِ الضَّرُورَة.
أيُّها المُسْلِمُون: لَقَدْ فُتِن كثيرٌ من
المسلمين بِما يُسَمَّى بالخِلافِ والاحْتِجاجِ بِه، بِما فِيهِم بَعْضُ الصناديقِ
المُفْرَغَةِ مِن مُتَمَشْيِخَةِ الفضائياتِ ومَواقِعِ التَّواصُلِ، وردُّوا
النُّصُوصَ الشرعِيَّةَ تَذَرُّعاً بِذلك، وزَيَّنَ لَهُم الشيطانُ هذا العَمَلَ
حتى جَعَلُوه سَبَباً لِتَرْكِ بَعْضِ الواجِباتِ كَصلاةِ الجماعةِ والحِجابِ
والأمْرِ بالمَعروفِ والنهيِ عن المُنْكَر. وارْتِكابِهِم بَعْضَ المَعاصي
كالأغاني والمَعازِفِ، بِحُجَّةِ الخِلاف!!! مَعَ العِلْمِ: أَنَّ اللهَ تَعالَى
بَعَثَ الرُّسُلَ وأَنْزَلَ الكُتُبَ مِن أجْلِ الحُكْمِ بَيْنَ الناسِ فيما
اخْتَلَفُوا فيه، وهَؤُلاءِ عَكَسُوا الأَمْرَ فَجَعَلُوا الخِلافَ حاكِماً عَلَى
ما جاءَ بِهِ الرسولُ ونَزَلَ بِهِ الكتابُ. وقَدْ قالَ أصْدَقُ القائِلِين
سُبحانَه: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ
إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
أيها المسلمون: لَيْسَ عَجِيباً أَن يَحْصُلَ
الاخْتِلافُ في مَسائِلِ الفِقْه، فإنَّ الاخْتِلافَ مِن طَبِيعَةِ البَشَر، وإنما
العجيبُ أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّه على الحَقِّ وأَنَّه لا يُخْطِئ، أو
يَعْتَقِدَ أَحَدٌ بأن فُلاناً لا يُخْطِئ. لأنَّ العِصْمَةَ فَقَطْ في بَيانِ
الدّينِ والشَّرِيعَةِ إِنَّما هِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ولا يَعْنِي ذلك أَنْ يَعْتَزِلَ الناسُ
العُلَماءَ ويَزْهُدُوا فيهِم، فإِن ذلك مِن أَعْظَمِ أَسبابِ الوُقُوعِ في
الضّلالِ وانْتِشارِ الفِتَن، لأن العُلَماءَ وَرَثَةُ الأنبياء، وهُم حَلْقَةُ
الوَصْلِ بين الناسِ وبين فَهْمِ الكِتابِ والسُّنَّة، فالعَقِيدَةُ والتفسيرُ
والحديثُ والفِقْهُ كُلُّها تُدْرَسُ على العُلَماء، ولِذلكَ كان فَقْدُهُم مِن
أَعْظَمِ المَصائِبِ على أَهْلِ الأرض, لِأنه بِذَهابِهِم يَذْهَبُ العِلْمُ، كما
قالَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انتِزاعاً
يَنْتَزِعُه مِن العِبَاِد، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبِضِ العُلَماء، حَتَّى
إذا لَمْ يُبْقِ عالِماً، اتَّخَذَ الناسُ رُؤُوساً جُهّالاً فَسُئِلُوا
فَأَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا ) وفي رواية : ( فَيَبْقَي ناسٌ
جُهَّالٌ يُستَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون ).
وإنَّما المُرادُ هو تَحْرِيمُ التَّقْلِيدِ
مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ وَوُضُوحِه.
وَيَدُلُّ هذا الحديثُ العَظيمُ على أَنَّه
لا يُسْتَغْنَى بالكُتُبِ عَن العُلَماء، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم،
بَيَّنَ أَنَّ مَوْتَ العُلَماءِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الناسِ في الضَّلالِ، حَتَّى
لَوْ كانت الكُتُبُ مَوْجُودَةً.
اللهم
أَرِنا الحَقَّ حَقَّاً وارْزُقْنا اتِّباعَه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
ولا تلبسه علينا فنضل يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت
أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل
الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظنا بالإسلام
قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا
حاسدين يا رب العالمين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل
السلام ونجّهم من الظلمات إلى النور يا ذا الجلال والإكرام، اللهم زيّنا بزينة
الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم
أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة
المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة
ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم
منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين،
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين،
اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين
في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ
بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها
وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم
بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، ووفقنا فيه لصالح القول
والعمل، اللهم اجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانا واحتسابا يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك
سميع قريب مجيب الدعوات، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
|