العقيدة
و الفطرة
إِنَّ الْحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا
أنّ حَقَّ اللهِ عَلَى عِبادِهِ أن يَعْبُدُوه ولا يُشْرِكُوا بِه شيئاً، بَلْ إن
غايَةَ خَلْقِهِم مَحْصُورَةٌ في ذلك، قال تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ). وقال تعالى: ( وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ). وقال تعالى لِنَبِيِّهِ
محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ). أي: أَقْبِلْ
أنت ومَن مَعَكَ على هذا الدِّينِ وأَخْلِص العِبادَةَ له وحده لا شريكَ له، واثْبُتْ على ذلك. والْحَنِيفُ: هو المُقْبِل على الله، المائِلُ عن
الشِّركِ إلى التوحيد، وعن الباطِلِ إلى الحق.
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تعالى، أنَّ هذا
الدِّين لَيْسَ أَمْراً جديداً على البَشَر، بَل هُمْ مَفْطُورُون عَلَيه فقال: (
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )، فالناسُ مَفْطُورُون على
الإسلامِ وَهُمْ في أصْلابِ آبائِهِم، وكذلكَ يُولَدُون على ذلك, قال تعالى: (
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ). وقال
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ
يُمَجِّسَانِهِ ). فَهُو مَولُودٌ على الإسلام، قابِلٌ لِتَعالِيمِه وأَحْكامِه، سواءً وُلِدَ في بَلَدٍ مُسْلِمٍ أو بَلَدٍ كافِر، وسواءً وُلِدَ في بَيْتٍ
مُسْلِمٍ أو بَيْتٍ كافِر، ولكنَّ هذه الفِطْرَةَ قَدْ تَتَغَيَّرُ بِسَبَبِ
التربيةِ المُخالِفَةِ لِدِينِ الإسلام، أو البِيئَةِ الْمُحِيطَةِ بِهذا الإنسان.
ولِذلِكَ تَجِدُ الكُفَّارَ الذينَ كَذّبُوا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، إذا رَكِبُوا في الفُلْكِ وشارَفُوا على الهلاكِ، أَلْقَوا آلِهَتَهُم في البَحْرِ
ونَسُوها، ولَم يَذْكُرُوا إلا اللهَ وحْدَه، وقال اللهُ تعالى فِي قَوْمِ
فِرْعَونَ وتَكْذِيبِهِم لِمُوسى: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا )، أي: جَحَدُوا بِها وَكَذّبُوا مُوسى في ظاهِرِ
أَمْرِهِم، ولكنهم في الباطِنِ يَعْلَمُون أَنَّها مِن عِنْدِ الله، والسَّبَبُ
أَنّ الفِطْرَةَ تَأْبَى دَفْعَ ما في أنْفُسِهِم.
فَتَأَمَّلُوا هذا الْحديثَ العَظِيمَ
جَيِّداً، وتَأَمَّلُوا سَعَةَ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبادِه، كَيْفَ جَعَلَهُمْ
مَفْطُورِينَ على هذا الدِّين مُسْتَعِدِّين لَقَبُولِ أَحْكامِه. وَعَلَى هذا
فإنَّ مَن عاشَ على الإسلامِ في بَيْتٍ مُسْلٍمٍ، وبَيْنَ أَبَوينِ مُسْلِمَيْن، فإنَّه لا يُعْتَبَرُ مُقَلِّداً، لأنَّه باقٍ على فِطْرَتِه التي فَطَرَهُ اللهُ
عليها. وإنَّما الْمُقَلِّدُ هو الكافِرُ الذي انْحَرَفَ عن دِينِ الفِطْرَةِ
بِسَبَبِ تَقْلِيدِهِ لِأَبَوَيهِ وبِيئَتِه.
فإِذا كانَ الإنسانُ مَولُوداً على
الفِطْرَةِ، وهِي التوحيدُ، ومُهَيَّأً لِقَبُولِ أحْكامِه، وجاءَه مَن يَدْعُوه
إلى الإسلام، فَأَيُّ عُذْرٍ لَهُ يَعْتَذِرُ بِهِ بَعْدَ ذلك؟!! وأَيُّ حُجَّةٍ
يَحْتَجُّ بها يَومَ القِيامَة؟!! ولِذلِكَ قال اللهُ تعالى: ( لا إِكْراهَ فِي
الدِّين )، والسَّبَبُ في ذلك، أَنَّه ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِن الغَيّ )، فالقُلُوب مَعَ هذا الوُضُوحِ التامِّ لا تَحْتاجُ للدُّخُولِ في الإسلامِ إلى
إكْراهٍ، لِسَبَبَين:
أَوَّلُهُما: أَنَّ
دِينَ الإسلامِ واضِحَةٌ دَلائِلُهُ وبَراهِينُه، لا تَحْتاجُ إلى أَن تُكْرَهَ
على الدُّخُولِ فيه، إضافَةً إلى ما سَبَقَ بَيانُه مِن أنَّها مَفْطورةٌ على
الإسلامِ، ومُهَيَّأَةٌ لِقَبُولِ أحكامِه.
والثاني: أَنَّ
مَنْ أَعْمَى اللهُ قَلْبَهُ، وخَتَمَ على سَمْعِهِ وبَصَرِهِ، فإنه لا يُفِيدُهُ
الدُّخُولُ في الإسلامِ إذا كانَ كارِهاً ومُكْرَها، فَلِماذا يُكْرَهُ على
الدُّخُولِ فيه؟ فإنّ قَبُولَ القَلْبِ شَرْطٌ مِن شُرُوطِ الشهادَتَين.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين,
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً
عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً
كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ الله: إنّ الْحديثَ الذي سَمِعْتُمُوه
فيما يَخُصُّ الإسلامَ وأَنَّه دِينُ الفِطْرَة، يَدُلُّ على عِظَمِ
مَسْئُولِيَّةِ الوالِدَينِ تُجاهَ أولادِهِم، وأَنَّهُما المَسْئُولُ الأَوَّلُ
في تَرْبِيَةِ أَولادِهِم، وإيجادِ البِيئَةِ الصالِحِةِ لَهُم، والمُحافَظَةِ على
فِطْرَتِهِم من الانحِراف، وأَنَّه ما مِن انْحِرافٍ إلا وسَبَبُه الأولُ غالِبًا
هُو الوالدانِ، فَكُونُوا على حَذَرٍ يا عبادَ الله، واعْلَمُوا أَنَّ أولادَكُم
عُنْوانُ بُيُوتِكُم ومُسْتَقْبَلُكُم بَعْدَ الله، وإياكُم أَنْ تَتَنَصَّلُوا عن
هذه المَسْئُولِيَّةِ، فإِنَّنا نَسْمَعُ في كثيرٍ من المجالِسِ تَذَمُّرَ بَعْضِ
الآباءِ مِن تَصَرُّفاتِ بَعْضِ الأولادِ والشبابِ والفَتَياتِ، وفي نَفْسِ
الوَقْتِ نَجِدُهُم مَعَ الأسفِ لا يَلُومُون أنفُسَهُم ولا يَعْتَرِفُونَ
بِتَقْصِيرِهِم، وإِنَّما يُلْقُونَ اللَّوْمَ على غَيْرِهِم، وكأَنَّ الأمْرَ لا
يَعْنِيهِم.
فاتقُوا
اللهَ أيُّها المُسلِمون، وكُونُوا قُدْوةً صالِحَةً لِأولادِكُم في أقوالِكُم
وأفعالِكُم، خُصُوصاً وأَنَّكُم في أَزْمِنَةِ الفِتَن، وأولادُنا - ذُكُوراً
وإناثاً - مستَهْدَفُون في عقيدَتِهِم، فاغْرِسُوا الإيمانَ في نُفُوسِهِم قَبْلَ
أنْ تَخْسَرُوهُم، وإياكُمْ والغَفْلَةَ عَنْهُم أو التخَلِّي عن مَسْئُوليةِ
إصْلاحِهِم، فإنَّ الْمِحْنَةَ على أهْلِ الإسلامِ قَد اشْتَدّت في هذا الزمان،
خُصوصاً الشباب، لأنَّهُم هُم المُسْتَقْبَلُ بَعْدَ الله، وَعَظُمَ تَسَلُّطُ
أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ والفَساد، وَكَثُرَ التَّفَلُّتُ مِنَ الدِّينِ
وَالِانْتِكَاسُ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ
وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ. وَتَفْكِيرُنا وحِرْصُنا على مُسْتَقبَلِ أولادِنا، يَجِبُ
أَنْ يَنْصَبَّ أولاً على إيمانِهِم، قَبْلَ الدِّراسةِ والشهادةِ والوظيفة. لأنَّ
خسارةَ الإيمانِ خسارةٌ في الدنيا والآخرةِ.
اللهم
أَقِرَّ عُيُونَنا بِصَلاحِ أولادِنا وشبابِ المُسْلِمِين، اللهم خُذْ بِأيدِهِم
إلى الهُدى والصلاح، اللهم انصُرْ بِهِم دِينَك، وأَعْلِ بِهِم كَلِمَتَك, وأغِظْ
بِهِم أَعْداءَك، اللهم مَن أرادَ بِهِم سُوءًا فأنزِل عليه بأسَكَ الذي لا
يُرَدُّ عن القَومِ المُجْرِمين.
اللهم
إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر
منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أرنا الحق
حقا, حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها
معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت
راحة لنا من كل شر، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا
بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا رب العالمين، اللهم ألّف بين
قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجّهم من الظلمات إلى النور يا
ذا الجلال والإكرام، اللهم زيّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أصلح
أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة
يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى
الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة
واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن
دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل
مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين،
اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه
البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم
الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |