العناية
بالتوحيد وأصول العقيدة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا
أنَّ تَحْقِيقَ شَهادَةِ أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّداً رسولُ الله، قَولاً
وعَمَلاً، والعِنايَةَ بالعَقِيدَةِ الصَّحيحةِ التي بُعِثَ بها رسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم، والعملَ الصالحَ الذي هو مُقْتَضَى هذه العقيدة، هو السّبَبُ الوحيدُ
الذي مِن أَجْلِهِ خُلِقْتُم، فلا تَبْحَثُوا عَن سَبَبٍ آخَرَ لِوُجُودِكُم، قال
تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ). فَكُلَّما
انْشَغَلْتَ أَيُّها العَبْدُ بِدُنياكَ عن دِينِك، فَقْلْ: إِنِّي لَم أُخْلَق
لِهذا. واسْتَحْضِرُوا ذلك وتَذَكَّرُوه وتَذاكَرُوه عَلَى سَبِيلِ الدَّوامِ،
كَيْ لا تَسْتَحْكِمَ عَلَيْكُم الغَفْلَةُ.
ثُمَّ اعْلَمُوا يا عِبادَ الله، أَنَّ العِبادَةَ
لا تُسَمَّى عِبادَةً، إلا مَعَ التوحيد، مَهْما بَذَلَ العَبْدُ مِن العِباداتِ
واسْتَكْثَرَ مِنها. كالوُضُوءِ بالنسبَةِ للصلاةِ، فَإِنَّ صَلاةَ العَبْدِ
مَهْما كَثُرَتْ فَإِنها لا تُقْبَل إِلا بالطُّهُورِ، لِأَنَّه مِفْتاحُها. قال
تعالى: ( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ), أَي أَنَّ سَعْيَه لا يَكونُ
مَشْكُوراً حَتى يُؤْمِنَ ويُوَحِّدَ اللهَ. وكَذلك الشِّرْكُ، فَإِنَّه
بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبادَةِ كالحَدَثِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاةِ، فَإِنَّه
يُبْطِلُها. فَلَو أَسْلَمَ العَبْدُ وَأَتَى بالشهادَتَيْنِ وَعَمِلَ صالِحًا،
ثُمَّ وَقَعَ في الشِّرْكِ، فَإِنَّه لا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا. لِقَولِه تعالى: (
وَلَو أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم ما كانُوا يَعْمَلُون ).
وهذا هُو السِّرُّ في كَثْرَةِ أَدِلَّةِ
التوحيدِ في القرآنِ والسنة، بَلْ إنَّ أَدِلَّةَ القرآنِ والسُّنَّةِ كُلَّها في
التوحيدِ وتَحْقِيقِ مَعْنَى الشهادَتين.
وهذا أَيْضًا هو السِّرُّ في كَوْنِ
دَعْوَةِ الأنبياءِ قائِمَةً على التوحيد، مُنْذُ أَنْ يُبْعَثَ الواحِدُ مِنْهُم
إلى أَن يَمُوتُ.
ولا عَجَبَ في ذلك: فَإِنَّ الخَلْقَ لَمْ
يُخْلَقْ إِلا مِنْ أَجْلِ عِبادَةِ اللهِ وَحْدَه لا شَرِيك لَه، والرُّسُلَ لَمْ
تَبْعَثْ إِلا مِن أَجْلِهِ، وَعَلَمُ الجِهادِ لَم يُرْفَعْ إِلا مِن أَجْلِه،
وَسُوقُ الجنةِ والنارِ لَمْ يَقُمْ إلا مِن أَجْلِهِ، وهُوَ حَقُّ اللهِ
الأَعْظَمُ على عِبادِه، وَأَوَّلُ سُؤالٍ يُسْأَلُ عَنْه كُلُّ مَقْبُورٍ،
ولِذلكَ فُطِرَ العِبادُ عَلَيْهِ وهُمْ في ظُهُورِ آبائِهِم، وُوُلِدُوا عَلَيْه.
وَكَذلِكَ لا عَجَبَ: أَنْ يكونَ مَقْصُودُ
الشيطانِ الأَعْظَمُ هو صَدَّ الناسِ عَنْه، فإِذا تَحَقَّقَ لَه ذلك، لَمْ
يَعْبّأْ بِما سِواه مِن الذُّنُوبِ.
أَلا تَرَوْنَ قِلَّةَ العِنايَةِ
بِمَسائِلِ التوحيدِ والعَقِيدَةِ لَدَى كَثِيرٍ مِن المُسْلِمين؟ بَلْ والدُّعاةِ
ومَنْ يَنْتَسِبُ إِلى العِلمِ أَيضًا؟!. إلا مَن رَحِمَ اللهُ، وقَلِيلٌ ماهم.
كُلُّ ذلك تَثْبِيطٌ مِن الشيطانِ وتَهْوِينٌ لِهذا الواجِبِ العَظيمِ في نُفُوسِ
المؤمنين، وإشْعارُهُم بِأَنَّ التوحيدَ مَعْروفٌ، والعَقيدَةُ أَمْرُها سَهْلٌ،
كَيْ يَتَهاوَنُوا في شَأْنِها. لأَنَّه بالتوحيدِ والعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ
يَزُولُ الشِّرْكُ وَمَظاهِرُه، وَيَنْهَزِمُ الإلحادُ وَشُبَهُهُ، وتَنْمَحِي
خُرافاتُ القَبُورِيِّينَ والسَّحَرَةِ والمُشَعْوِذين، وتَقْوَى عَقِيدَةُ
الوَلاءِ والبَراءِ، ويَكْتَمِلُ التَّوَكُّلُ، وتَتَعَلَّقُ القُلُوبُ بِخالِقِها
وَمَعبودِها، وتَنْقادُ لِأَحْكامِه. بَلْ إِنَّ السعادةَ وطُمَأْنِينَةَ النَفْسِ
وراحةَ البالِ، لا تَتَحَقَّقُ إِلا بِالتوحيدِ وصَفاءِ العَقيدةِ، فَهِيَ الدافعُ
القَوِيُّ إلى التَّغَلُّبِ على جَمِيعِ المَخاوُفِ والقَلَقِ والهُمُومِ والشُّكُوكِ
والحَيْرَةِ. ولِذلك نَجْدُ التذْكِيرَ في كتابِ اللهِ في شاْنِها كَثِيرٌ ودائِمٌ
لا يَنْقَطِعُ. بَلْ حَتى في عَمَلِ اليَومِ واللَّيْلَةِ نَجِدُ هذا التَّكْرارَ
في التَّذْكيرِ، ولكن الكَثِيرَ مِنَّا غافِلٌ. أَلَسْنا نَسْمَعُ الأذانَ خَمْسَ
مَرَّاتٍ في اليَومِ والليلةِ؟ وَقَدْ شُرِعَ لَنَا مُتابَعَتُه كُلَّمَا
نَسْمَعُه؟ فَإِنَّ أَلفاظَهُ كُلَّها تَوحيدُ، وتَذْكيرٌ بالشهادتين. لِماذا لا
نَعْتَبِرُ بِهذا التَكْرارِ الدَائِمِ المُسْتَمِرّ؟. ألَسْنا نُصَلِّي عَلى
الأَقَلِّ خَمْسَ صَلَواتٍ في اليومِ والليلةِ؟ فَإِنَّ تَحْريمَها التكبيرُ،
وانْتِقالاتُها بالتكبير، ونَقْرَأُ فِيها سُورةَ الفاتحةِ، أَعْظَمُ سُوَرِ
القرآنِ، لِاشْتِمالِها على أَصُولِ العَقيدةِ وأَنْواعِ التوحيدِ، ولا بُدَّ فيها
مِن التَشَهُّدِ والجُلُوسِ لَه، لِأَنَ أَلفاظَهُ كُلَّها تَوحيد. وَمَعَ هذا
التَكرارِ والتَذْكيرِ الدائِمِ، نَجِدُ أَنْفُسَنا مُقَصِّرِين في هذا الواجِبِ
العَظِيم، تَعَلُّماً ومُذاكَرةً وتَذْكيراً ودَعْوَةً.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى
الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ
أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ الله: إِنَّ مِن أَعْظَمِ أَدِلَّةِ
التوحيدِ، قَوْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ( مَن شَهِدِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وأنَّ عِيسَى عبدُ
اللهِ ورسولُه، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه، وأنَّ الجَنَّةَ
حَقٌّ، وأنَّ النَّارَ حَقٌّ، أدْخَلَهُ اللَّهُ الجنةَ على ما كان مِن العَمل ).
فَهذه خَمْسةُ أُمُورٍ كُلُّها في أُصُولِ العقيدةِ: الأُولى والثانية: الشهادتان،
والمُرادُ: التَلَفُظُ بِهِما، ومَعْرِفَةُ مَعناهُما، والعَمَلُ بِمَدْلُولِهِما،
لِأَنَّ مُجَرَّدَ النُّطْقِ بِهِما فقط، لا يَكْفي.
والثالثة: الشهادةُ بِأَنَّ عيسى عبدُ اللهِ
ورسولُه، وأَنَّه لَيْسَ ابنَ سِفاحٍ كما تَقُولُهُ اليهودُ، ولَيْسَ هو اللهَ ولا
ابنَ اللهِ ولا ثالثَ ثلاثةٍ، كما تقوله النصارى. وأنَّه كَلِمَةُ اللهِ، أَي
أَنَّ اللهَ خَلَقَهُ بِكَلِمَةِ كُن، كما خَلَقَ أباه آدم. وأَنَّه روحٌ مِن
الأرواحِ التي خَلَقَها الله، إلاّ أَنَّ اللهَ أَضَافَها إليهِ إضافةَ تَشْريفٍ،
كَما أُضيفَ بَيْتُ اللهِ وناقَةُ الله.
والرابعةُ: أَنَّ الجنَّةَ حَقٌّ ثابتُ لا
رَيْبَ فيها، وهي مَوجودةُ، خَلَقَها اللهُ للمؤمنين، وأَعَدَّها لَهم، خالدين
فيها أَبدا. فيها مالا عينٌ رَأَت ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خطَرَ على قلْبِ بَشَر.
والخامسة: النارُ، وأَنَّها حَقٌ، وهي
موجودةٌ الآن، أَعَدَها الله للكافرين والمنافقين، وَهُم خالدُون مُخَلَّدُون فيها
أَبَدا، لا يُقْضَى عَلَيْهِم فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِن عذابها.
فَهذِهِ الأُمُورُ الخَمسةُ، مَن صَدَّقَ
وآمَنَ بِها وَعَمِلَ بِما تَقْتَضِيهِ، دَخَلَ الجنةَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى
فَضْلِ هذه العقيدةِ. لكن لابُدَّ مِن عَمَلٍ يُصَدِّقُ هذه العقيدةَ، لِأَنَّه
قال: ( أدْخَلَهُ اللَّهُ الجنةَ على ما كان مِن العَمل ).
اللهم
اجعلنا مِن عِبادِك المُخْلَصِين, وحِزْبِكَ المُفلِحِين، وتوفنا مسلمين وألحقنا
بالصالحين، وخلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا
بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين،
اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح
ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجّهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم
يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ لبلادنا
دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، اللهم انصرها على من يكيد لها في داخلها
وخارجها، اللهم أخرجها من الفتن والشرور، واجعلها أقوى مما كنت، اللهم أصلح أهلها
وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا
عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|