دواوين الظلم
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ
الله: اتقُوا اللهَ تعالى وراقِبُوه، واتقُوا الظُّلْمَ، فإِنَّه ظُلُماتٌ يَوْمَ القيامةِ، كَما أَخْبَرَ بِذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، واعْلَمُوا أَنَّ دَواوِينَ الظُّلْمِ
ثَلاثَة: دِيوانٌ لا يَغْفِرُ اللهُ مِنهُ شَيْئاً. ودِيوانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنه
شيئاً، والدِّيوانُ الثالِثُ هو ظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَه فيما بَيْنَهُ وبين الله.
فأَمَّا الدِّيوانُ الأَوَّلُ الذي لا يَغْفِرُ
اللهُ مِنه شَيْئاً: فَهْو دِيوانُ الكُفْرِ، المُتَضَمِّنِ لِكُلِّ ما يُنافِي الإيمانَ، فَيَشْمَلُ الشِّرْكَ باللهِ ودُعاءَ غَيْرِهِ، والذَّبْحَ لِغَيْرِهِ والنَّذْرَ لِغَيْرِهِ
والاستِغاثَةَ بِغَيْرِه، وتَرْكَ الصَّلاةِ، ويَشْمَلُ النفاقَ, وعَدَمَ الإيمانِ
بِنُبُوَّةِ رسُولِ اللهِ صلى اللهِ عليه وسلم، ويَشْمَلُ جَحْدَ الحَقِّ الذي جاءَت
بِهِ نُصُوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصلاةِ أو الزكاةِ أو الصَّوْمِ، أو بِرِّ الوالِدَين، أو جَحْدِ تَحْريمِ الخَمْرِ والزِّنا وعُقُوقِ الوالِدَين والرِّبا، وغَيْرُ ذلك مِمَّا هُو مَعْلُومٌ مِن الدِّينِ بالضَّرُورة. هذا هُو الظُّلْمُ الأَكْبَرُ
الذي لا يَغْفِرُ اللهُ مِنْه شَيْئًا.
فَإِذا أُطْلِقَ الظُّلْمُ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، فالمُرادُ بِهِ هذا النَّوعُ مِن الظُّلْمِ. وَلَمَّا نَزَلُ قَوْلُ اللهِ تعالى:
( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ )، قال الصَّحابَةُ رضي اللهُ عَنْهُم: أَيُّنا لَم يَظْلِم نَفْسَه؟
فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَلَمْ تَسْمَعُوا ما قال العَبْدُ الصالِح:
" يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
" ). وقال اللهُ تعالى في شَأْنِ الكُفْرِ وأَهْلِهِ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ
فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ
وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ), فالظُّلْمُ
الأَكْبَر الذي لا تَنْفَعُ مَعَهُ خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ يَوْمَ القِيامَةِ, هُو الكُفْرُ
بِاللهِ. فَهُوَ أَظْلَمُ الظُّلْم. قال عَطاءُ بنْ دِينارٍ رحمه الله: " الحَمْدُ
لِله الذي قال: " والكافِرُون هُم الظالِمُون " ولَم يَقُل: " والظالِمُون
هُم الكافِرُون ". وصَدَقَ رَحِمَهُ الله, لِأَنَّه لَيْسَ مِن أَحَدٍ إلا وقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَه، ولكِن كُلَّ ظُلْمٍ وإِن سَمَّاهُ الناسُ ظُلْمًا، فَإِنَّه لَيْسَ
بِشَيءٍ عِنْدَ ظُلْمِ الكُفْرِ بالله.
وقال تعالى: ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا )، فانْظُرُوا
يا عِبادَ اللهِ إلى شِدَّةِ نَدامَةِ هذا الظالِمِ يَومَ القِيامَةِ، فَإِنَّه لَمْ
يَظْلِم أَحَداً مِن الخَلْقِ، وإنَّما وَصَفَهُ اللهُ بِالظالِمِ لِأّنَّه لَم يَتَّخِذْ
مَع الرسولِ سَبِيلا.
وقال
تعالى في آخِرِ سُورَةِ إبراهيم: ( ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون
)، ثُمَّ بَيَّن في سِياقِ الآياتِ أَنّ ظُلْمَهُم هذا إنَّما هُو بِسَبَبِ عَدَمِ
اسْتِجابَتِهِم لِدَعْوَةِ اللهِ وعَدَمِ اتِّباعِهِم لِلرُّسُلِ، فقال: ( وَأَنذِرِ
النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا
إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ).
وأَمَّا الدِّيوانُ الثانِي مِن دَوَاوِينِ الظُّلْم
: فَهُو أَخَفُّ مِن الأَوَّلِ، ولكِنّ اللهَ لا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا، وهُوَ ظُلْمُ
العِبادِ بَعْضِهِم بَعْضا، فَإِنَّ اللهَ يَسْتَوْفِيهِ كُلَّه، ويُمْحَى بالخُرُوجِ
مِنْها إلى أصْحابِها، واسْتِحْلالِهِم مِنْها، قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
( إن المُفْلسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يأتي يومَ القيامةِ بِصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي
قَدْ شَتَم هذا، وقَذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دمَ هذا، وضربَ هذا. فَيُعْطِى
هذا مِن حسناتِه وهذا مِن حسناتِه، فإنْ فَنِيَتْ حسناتُه، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى ما
عليه، أُخِذَ مِن خطاياهُم فَطُرِحَت عليه. ثم طُرِحَ في النار ). وقال أيْضاً: ( مَنْ
كان لِأخِيهِ مَظْلَمَةٌ مِنْ عِرْضٍ أو مالٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ اليومَ، قَبْلَ أَنْ
يُؤْخَذَ مِنْه يَوْمَ لا دِينارَ ولا دِرْهَم، فَإِنْ كان لَهُ عَمَلٌ، أُخِذَ مِنْهُ
بِقَدْرِ مَظْلَمَتِه، وإِنْ لَمْ يَكُن لَهُ عَمَلٌ، أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صاحِبِه
فَجُعِلَت عَلَيْه ) . فَكُونُوا يا عِبادَ اللهِ عَلَى حَذَر.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ،
وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ
تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عبادَ
الله: وأَمَّا الدِّيوانُ الثالِثُ مِن دَواوِينِ الظُّلْم، فَهُو ظُلْمُ العَبْدِ
لِنَفْسِه، فيما يَتَعَلَّقُ بِما هُو دُون الكُفْرِ والشِّركِ مِن الذُّنُوب، أو حُقُوقِ
الخَلْق. فإنَّ هذا الدِّيوانَ أخَفُّ الدَّوَاوِينِ وأَسْرَعُها مَحْواً، فَإِنَّه
يُمْحَى بالتَّوْبَةِ والاِسْتِغْفارِ والحَسَناتِ الماحِيَةِ والمَصائِبِ المُكَفِّرَةِ، ودُعاءِ المُؤْمِنِين له.
وكُلُّ دِيوانٍ مِن دَواوِينِ الظُّلُم سِوى
الشِّركِ وأَنواعِ الكُفْرِ، فَإِنَّه داخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ قَولِه تعالى: ( إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ
)، أي: أَنَّ صاحِبَه تَحْتَ المَشِيئَةِ، إِن شاءَ غَفَرَ له، وإِنْ شاءَ عَذَّبَه
بِقَدْرِ ذَنْبِه ثُمَّ أَدْخَلَه الجَّنة. وأَما النَّوعُ الأَوَّلُ مِن الظُّلْم، فَمَيْئُوسٌ مِنْه، كما سَمِعْتُم في الآيةِ، ولِقَوْلِهِ تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وقال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْه وَهُوَ في الآخِرَةِ مِن الخاسِرِين ).
فاحْذَرُوا أَيُّها المُسْلِمُون مِن الظُّلْمِ
صَغِيرِهِ وكَبِيرِه، واسْتَقِيمُوا عَلَى دِينِ اللهِ، واعْلَمُوا أَن سِلْعَةَ اللهِ
غالِيَةٌ، وسِلْعَتُه الجَنَّة.
اللهم إنا نسألك الجنة
وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وماقرب إليها من قول وعمل، اللهم
خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو
عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا،
واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت
نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين،
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد
لها، اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في
تدميره يا قوي يا عزيز، اللهم وفق ولاة أمورنا لكل خير، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) ..
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |