الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار وثمرة
الإخلاص
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقُوا اللهَ تعالى، وأخلِصُوا
أعمالَكُم لله، واعلمُوا أَنَّ للإخلاصِ أَثَراً عَظِيماً في قَلْبِ المُؤْمِنِ
وجَوارِحِه، وسَعادَتِهِ في دُنياه وأُخْراه. وقَدْ دَلَّت نُصُوصُ الكِتابِ
والسُّنَّةِ على ذلك. ومِمَّا وَرَدَ في هذا الشَّأْنِ العَظيم، قِصَّةُ الثلاثَةِ
الذينَ دَخَلُوا غاراً ، فانْحَدَرَت عليهِم صخْرَةٌ فَسَدَّت عَلَيهِم الغارَ، وأَشْرَفُوا على الهَلاكِ، لَولا أَنَّهُم دَعَوا اللهَ بِصالِحِ أَعْمالِهِم، فَفَرَّجَ اللهُ عَنْهُم بِسَبِبِ إِخْلاصِهِم في تلكَ الأعْمال. فأما الأول
فَكانَ له أَبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرانِ، وكانت عِندَه إِبِلٌ يَرْعاها، فإذا
رَجَعَ إِلَيْهِما آخِرَ النهار، أتَي إِلَيِهِما بالغَبُوق، وهو ما يُحُلَبُ
آخِرَ النَّهار، فَيَسْقِيهِما قَبْلَ أَن يَسْقِيَ أَولادَه وأَهْلَه وخَدَمَه، فَتَأَخَّرَ ذاتَ يَومٍ بالغَبُوقِ، فَوجَدَ والِدَيْهِ قَدْ ناما، فَكَرِهِ أَنْ
يُوقِظَهُما، وكَرِهِ أَنْ يَسْقِيَ أَهْلَه وصِبْيَتَه قَبْلَهُما، فَلَبِثَ
قائِماً وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِيْهِ، يَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرَقَ
الْفَجْرُ وَالصِّبْيَةُ يَصِيحُونَ عِنْدَ قَدَمِه، فَاسْتَيْقظَا فَشَربَا
غَبُوقَهُمَا. فقال هذا الرجُلُ في دُعائِه: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ
فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ
هَذِهِ الصَّخْرَة، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ". لَمْ يَبُرَّهُما كَيْ يَمْدَحَه الناسُ، أو يَنالَ مَصْلَحَةً
دُنْيَوِيَّة، وإِنَّما فَعَلَ ذلك ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ومَرْضاتِه، يُرِيدُ
بِذلكَ الفَوْزَ بالجَنَّةِ والنَّجاةِ مِن النار، فَيا لَهُ مِن بِرٍّ يَفُوقُ
الوَصْفَ، ويا لَها مِن نِيَّةٍ صادِقَةٍ، دَلَّ على صِدْقِها وكَمالِها ارتفاعُ
الصَّخْرَةِ. فَإِنَّه لَو كان كاذِباً لَمْ تَرْتَفِع. وأما الثاني فقال: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانتْ
لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ كانتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَأَرَدْتُهَا عَلَى
نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّى حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ –
أي: اضْطَرَّتْ إلى المال – فَجَاءَتْنِي – أي: ذَلِيلَةً مُنْهَزِمَةً أمامَ
ظُرُوفِها المالِيَّةِ القاسِيَة - فَأَعْطَيْتُهِا عِشْرينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ
عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا، ففَعَلَت، فَلَمَّا قَعَدْتُ
بَيْنَ رِجْليْهَا، قَالتْ: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخاتَمَ إِلاَّ
بِحَقِّهِ، فانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِليَّ، وَتركْتُ
الذَّهَبَ الَّذي أَعْطَيتُهَا. ثُمَّ قال: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعْلتُ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فانفَرَجَتِ
الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا". فَيا
لَها مِن عِفَّةٍ يَنْدَهِشُ عِنْدَ سَماعِها مَن كان لَه قَلْبٌ حَيٌّ، لِأَنَّه
مَوقِفٌ صَعْبٌ، عِنْدَما يَتَمَكَّنُ شابٌّ تَمَكُّنًا تامًّا مِن مَعْشُوقَتِهِ
التي هي أَحَبُّ مَن فِي الأَرْضِ إلى قَلْبِه، بَل وَيَقْعُدُ بَيْنَ رِجْلَيْها
بِرِضاها، ثُمَّ يَسْمَعُ كَلِمَةً تَهُزُّ الجِبالَ وتَوجَلُ مِنْها القلوبُ
الحَيَّةِ، ويَقْشَعِرُّ مِنْها جِلْدُ المُؤْمِن، وهي قَوْلُها: اتَّقِ الله!!!
فانْطَفَأَت نارُ الشَّهْوةِ التي في قَلْبِهِ، وقامَ مِنْها بِسَبَبِ هذِهِ
الكَلِمَة، وبِسَبَبِ تَقْواهُ لله. قامَ مِن بينِ رِجْلَي مَعْشُوقَتِه وأَحَبِّ
الناسِ إليه، ابْتغاءَ وَجْهِ الله، وكان صادِقاً في نِيَّتِه وفي كِلامِه، إذْ
لَو كان كاذِباً لَم تَرْتَفِعِ الصَّخْرَة. فَيَا مَن ضَعُفَ أَمامَ شَهْوَتِهِ:
تَذَكَّرْ هذا المَوْقِفَ العَظِيمَ مِن هذا الشابِّ، وانْظُرْ كَيْفَ تَفْعَلُ
التَّقْوَى والإخلاصُ في العَبْدِ أَمامَ المَعاصِي والشّهَوات، وتَذَكَّرْ أَنَّ
هذا الشابَّ لَمْ يَتْرُكْ الزِّنا خَوفاً مِن عُقُوبَةِ الرَّجْمِ أو رَقابَةِ الناسِ أو الأمْراضِ
الجِنْسِيَّة، وإنَّمَا تَرَكَها خَوفًا مِن الله. وهذا
المَوْقِفُ العَظِيمُ يُعِينُكَ على فَهْمِ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
مَعَاصِيكَ ). لأن القلبَ إذا أَخْلَصَ لله، امتلأَ خوفاً من الله، وامْتَنَعَت
الأعضاءُ عن المعاصي. وامتَنَعَت عن الزنا، وعن أكلِ الربا، والرَّشوةِ وقَوْلِ
الزُّورِ، والغِيبةِ، والكَذِبِ، والنَّمِيمَةِ، وكذلك ذُنُوبِ الخَلَوَاتِ عندما
يَكُونُ العبدُ خالِيًا وَحْدَه لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلا الله.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين,
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً
عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً
كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ الله: وأما الثالِثُ فَرَجُلٌ أمِينٌ
ضَرَبَ مَثَلاً لا يُوصَفُ ولا يُصَدَّقُ في الأمانَةِ والوَفاءِ لَوْلا أَنَّ
الصادِقَ المَصْدُوقَ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَه، فقال ذلك الرجُل: اللَّهُمَّ
إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجرَاءَ، وَأَعْطَيْتُهمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ
وَاحِدٍ، تَرَكَ الَّذي لَّه وَذَهبَ، فثمَّرتُ أجْرَهُ حَتَّى كَثُرَت مِنْهُ
الأموالُ، فَجاءَنِي بَعدَ حِينٍ، فَقالَ يَا عبدَ اللهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي،
فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ: مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
وَالرَّقِيق، فقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتهْزئْ بي، فَقُلْتُ: لاَ
أَسْتَهْزئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْه شَيْئاً،
" اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا
مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فخرَجُوا يَمْشُونَ". نَمَّا
مالَه، وتاجَرَ فيه، وحافَظَ عَلَيه وصَانَه، فَلَمَّا جاءَ ذلك الأجِيرُ، دَفَعَه
إِلَيْه، ولَمْ يَقُلْ: أَعْطِنِي أُجْرَةَ تَعَبِي وأَمانَتي، ولَمْ يَنْتَظِرْ
مِن ذلك الأَجِيرِ مَدْحًا، لأنَّه فَعَلَ ذلك للهِ وَحْدَه، لا يُريدُ جائِزَةً
مَن أَحَدٍ، مَعَ العِلْمِ أَنَّه لَو لَمْ يُعِطِهِ إلا أُجْرَتَهُ فَقَط، لَم
يَكُن عَلَيْهِ لَومٌ، ولِكِنَّه مُخْلِصٌ لله، أَمِينٌ صادِقُ ناصِحٌ زاهِدٌ لا
تَزِنُ الدّنيا عِندَهُ شَيْئًا.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ الله، وأَخْلِصُوا
أَعْمالَكُم كُلَّها لِله، فإنَّ الإخلاصَ سَبَبٌ رَئِيسٌ لصَلاحِ القُلُوبِ، وسَبَبٌ لِسعادَةِ الدنيا والآخِرَةِ، والنَّجاةِ مِن الكُرُبات.
اللهم
ارزقنا الإخلاص في أعمالنا وأقوالنا, واهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنا إلا أنت
واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا
وأحوالنا، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك، اللَّهُمَّ
اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ
طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ
عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا, وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا
وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ
ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ
تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ
هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ
يَرْحَمُنَا يا أرحم الراحمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام
قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أعزَّ
الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك
المؤمنين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم انصر
المستضعفين من المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم ارفع البلاء عن
المستضعفين من المؤمنين، اللهم ليس لهم حول ولا قوة إلا بك اللهم ليس لهم إلا أنت
يا قوي يا عزيز اللهم انصرهم على من ظلمهم وعاداهم، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين
يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم
زلزلهم وزلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا
قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم
احفظها ممن يكيد لها، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام
والمسلمين، وبصّرهم بأعدائهم يا حي يا قيوم، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ).
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|