الثلاثة الذين تكلموا في المهد
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واحرصوا على تزكية أنفسكم بالإيمان والعمل الصالح, والبعد عن الذنوب والمعاصي, قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾. واعلموا أن القلب يحتاج إلى ما يُوقِظه ويُذَكِّره. وإن من أعظم ما يُعِينُ على ذلك: معرفةُ ما كان يقصُّه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابِه من قصص الماضين, وما فيها من الدروس والمواعظِ والعِبَر.
ومِمَّا ورد في ذلك ما رواه البخاري ومسلم, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى.
وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ, كَانَ يُصَلِّي, جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ, فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ. وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ, فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى, وفي رواية قالت: - إن شئتم لأفتِنَنَّه لَكُم - فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا, فَوَلَدَتْ غُلَامًا, فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ, وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ, فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى, ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي. قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا, إِلَّا مِنْ طِينٍ .
وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ, فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ, فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ, فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ. ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ, فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ, فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ, وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ. وفي رواية: يقولون: سَرَقْتِ زَنَيْتِ, وَهِيَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ).
ففي هذا الحديث العظيم ما يدل على آيةٍ من آيات الله, حيث أعطى هؤلاء الثلاثة القُدْرَة على الكلام وهم في المهد.
أَوَّلُهُم: عيسى عليه السلام, ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من خبرِهِ لأن الله تعالى ذكَرَهُ في القرآن.
والثاني: الصّبِي الذي نطق في شأن الجارية المظلومة, وذلك لبيان أمر مهم, وهو تذكير الناس بأن المظاهر لا تغني صاحبها شيئا, ما لم يكن الشخص ملتزما شرع الله تعالى, فإن الصبي في المهد دعا الله أن لا يكون مثل ذلك الرجلِ ذي الشارة, أي: الذي يشار إليه بالبنان لِمَكانَتِه وَعُلُوِّ قَدْرِه عند الناس, لكنه حَقير لا قَدْرَ له عند الله, بِسَبَبِ ظُلمِه وتَجَبُّرِه, مع العلم أن أم ذلك الصبي اغترت بما أوتي ذلك الرجل من القدر والمكانة. واستهانت بتلك الجارية التي تُجَرُّ في السِّكَك تحقيراً لشأنها, مع العلم أن قدرها عند الله عظيم. والسبب أنها كانت تُتَّهم بالباطل, وبما ليس فيها, وهي بريئة, فتصبر وتحتسب وتَكِلُ أمْرَها إلى الله, وفي هذا بُشرى لمن يُفتَرَى عليه ويُرمَى بما ليس فيه, إذا صَبَرَ واحتسب, أن يكون ثوابه الجنة, وفي ذلك تَسْلِيَةٌ له أيضا, وإعانةٌ على تَحَمُّلِ أذى الآخرين.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ،
عباد الله: الثالث ممن تكلموا في المهد, ما سمعتم في قصة جريج, فإن فيها عِبَراً كثيرة, منها: عِظَم شأن الوالدين, وأن عقوقهما خطير وسبب لحلول المصائب, وأنه إذا تعارضت نافلة العبادة مع بر الوالدين قُدِّمَ بِرُهُما, وأما حقوق الله الواجبة فلا يجوز تركها من أجل إرضاء الناس مهما كانت مكانتهم وقرابتهم, لأنه لا طاعة لِمخلوقٍ في معصية الخالق.
وفيها من الفوائد: أن أهل الباطل يسعون لإفساد أهل الخير والصلاح ويفرحون بذلك, بل ويَحيكون ضِدَّه كلّ ما مِن شأنِه تشويهُ سُمعتِه.
وفيها من الفوائد: أن من تعرف على الله في الرخاء كان الله معه في الشدة, فإن جُريجاً قد تَعَرَّضَ لِتُهمَةٍ لَبِسَتْه ولَمْ يكن لديه ما يُبَرِّئُه لولا أن الله أنجاه, وأثابه بِكَرامةٍ عَظيمَة خارِقة, ألا وهي إنطاق الصبي مِن أجله.
وفيها من الفوائد: أن الوضوء مشروع حتى في الأمم السابقة لأن جُريجاً دعا بوضوء فتوضأ وصلى.
وفيها من الفوائد أيضاً: أن من تَعَلَّقَ بالله والدار الآخرة, هانَت الدنيا عنده, وصَغُرَ شأنُها, ولم يغتر بزخرفها مهما عَظُمَ وكثر, فإنَ جُريجاً لما أرادوا أن يبنوا له صومعة من ذهب, أبى وطلب أن يُعيدوها كما كانت.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم أصلح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم أعذهم من شر الفتنة والفرقة والاختلاف يا حي يا قيوم، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في سوريّا، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع الظلم والطغيان عنهم، اللهم اكشف كربتهم، اللهم اجعلهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية، اللهم اكسهم وأطعمهم، اللهم ارحم موتاهم واشف مرضاهم، وفك أسراهم وردهم إلى وطنهم رداً جميلاً يا أرحم الراحمين، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم وفقهم بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتحذرهم من الشر يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|