الآيَتانِ
مِن آخِرِ سُورةِ البَقَرة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقُوا اللهَ تَعالى، واعْلَمُوا
أنَّ القرآنَ الكريمَ، أعظَمُ الكُتُبِ وأَفْضَلُها وأصْدَقُها. وهُوَ أَعْظَمُ
كُتُبِ اللهِ المُنَزَّلَةِ وأشْمَلُها والمُهَيْمِنُ عليها، وهُوَ حَبْلُ اللهِ
الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وقَدِ
اشْتَمَلَ علَى آياتٍ مُبيِّناتٍ، وسُوَرٍ مُعجزاتٍ تَناولَت العقيدةَ
وبَيَّنَتْها أحْسَنَ بَيان. وبَيَّنَتْ أحكامَ الشريعةِ ومقاصِدَهَا، وقَصَصَ
الأُممِ السابقةِ ومواعِظَهَا، ووَرَدَ فيهَا الترغيبُ فِي الجِنانِ، والترهيبُ
مِنَ النيرانِ، وقَدْ خصَّ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى بعضَ سُوَرِ القرآنِ وآياتِهِ
بِبَعْضِ الفَضائِلِ التي لا تُوجَدُ في غيرِها. وَمِن ذلك: ما وَرَدَ في فَضْلِ
الآيَتَينِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ
قَرَأَ بالآيتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورةِ البقَرةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ )، وعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضاً مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ،
فَقَالَ: ( هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ, لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ
إِلاَّ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى
الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ
بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ
الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا
إِلاَّ أُعْطِيتَهُ ). وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أُعْطِيتُ
خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ
نَبِيٌّ قَبْلِي ). فماذا بَعْدَ هذا الفَضْلِ والخَصائِصِ يا عِبادَ الله!!!
فقد اشْتَمَلَتا على الإيمانِ باللهِ
وملائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِهِ واليومِ الآخرِ، وفِيها بَيانُ وُجُوبِ
التَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللهِ وأَمْرِ رَسُولِه، وأَنَّه يَجِبُ على المُؤْمِن إذا
دُعِيَ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَقُولَ سَمِعْنا وأَطَعْنا، مِن غَيْرِ
تَرَدُّدِ، فَإِنَّ ذلك سَبَبٌ لِتيْسيرِ أُمُورِهِ، والتَّفْرِيجِ عَنْه ورَفْعِ
الحَرَجِ والمَشَقَّةِ عَنْه، ومِن ذلك: العَفْوُ والمَغْفِرَةُ وعَدَمُ
مُؤَاخَذَتِه عِنْدَ الخَطأِ والنِّسْيانِ.
وزِيادَةً
على ذلك:
أنَّهُما مِن خَصائِصِ نَبِيِّنا صلى الله
عليه وسلم. وَمِن خَصائِصِ هذِه الأُمَّةِ. وَأَنَّه نَزَلَ بِهِما مَلَكٌ لَمْ
يَنْزِلْ قَبْلَ ذلك. وأَنَّه فُتِحَ لَهُما بابٌ مِن السماءِ خاصٌّ لَم يُفْتَحْ
قَبْلَ ذلك.
وأَنَّه ما سَأَلَ عَبْدٌ رَبَّهُ بِهِما
إلا أعطاهُ ما فِيهِما، لأن سَبَبَ نُزُولِ هاتينِ الآيتين، أنه لَمَّا نَزَلَت
على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( وإن تُبدُوا ما في أنفسِكم أو تُخْفُوه
يُحاسِبْكُم به اللهُ ) اشْتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ( قُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا وسَلّمْنا )،
فَأَلْقَى اللهُ الإيمانَ في قُلُوبِهِم. فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: لا يُكَلِّفُ
اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَت رَبَّنا لا
تُؤَاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأنَا ( قال: قَدْ فَعَلْتُ ) رَبَّنا ولا
تَحْمِلْ علَيْنا إِصْرًا كَمَا حمَلْتَه عَلَى الذين مِن قَبْلِنا ( قال: قَدْ
فَعَلْت ) وَاْغْفِرْ لِنا وارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا ( قال: قَدْ فَعَلْت
).
وكذلك فإنَّ هاتَيْنِ الآيَتَينِ نورٌ
وكَنْزٌ مِن تَحْتِ العَرْش. وَأَنَّهُما نَزَلَتا على رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم بِحَضْرَةِ جبريلَ عليه السلام. والعَجِيبُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم بُشِّرَ بِهِما، وهذا مِمَّا يَزِيدُهُما فَضْلاً.
وَمِن ذلك: أَنَّهُما وِرْدٌ وإعاذَةٌ مِن
الشياطِينِ والشُّرُورِ في البُيُوتِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ
اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِأَلْفَيْ عَامٍ أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ،
وَلَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ ). ففي هذا
دَلِيلٌ على أنَّهُما وِرْدٌ لَيْلِيٌّ مَنْزِلِي، وأَنَّهُما كِفايَةٌ ودِرْعٌ
وحِفْظٌ وعِنايَةٌ، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( كَفَتاه )، أي: كَفَتاه
مِن شَرِّ ما يُؤْذِيهِ، فَهُما مِن الأَوْرادِ المَتِينَةِ التي تَمْنَع الأَذَى
والشَّرَّ والسُّوءَ والمَكْروهَ، والإِفسادَ والضَّرَرَ بِإذْنِ الله، وتُعوِّذ
العَبْدَ مِن العَيْنِ والسِّحْرِ وشياطينِ الإنْسِ والجن، ومُضِلاَّتِ الفتن.
باركَ اللهُ لِي
وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ
الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي
وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ،
وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ
تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عبادَ الله: هاتانِ الآيَتانِ: مِن أَوْرادِ
اللَّيلِ خاصَّة، واللَّيْلُ يَدخُلُ بِغُرُوبِ الشمسِ، فَمَتى قَرَأَها الإنسانُ
مِن أَوَّلِ اللَّيْلِ أَو وَسَطِهِ أَوْ عِنْدَ النَّوْمِ، حَصَلَ لَهُ ذلك،
والأَفْضَلُ أَنْ يُبادِرَ بِقِراءَتِهِا أَوَّلَ اللَّيْلِ بَعْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ مُباشرَة، أَو بَعْدَ صَلاةِ المَغْرِب.
فَاحْرِصُوا عِبادَ اللهِ على قِراءَةِ
هاتينِ الآيَتَينِ، وعَلِّمُوها أَهْلِيكَم وأَولادَكم، والأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ
قِراءَتَهُما في البُيُوتِ، كَيْ نَطْرُدَ الشَياطِينَ والشُّرُورَ والآفاتِ
عَنَّا وعَن بُيُوتِنا، ونَحْفَظَ بِذلِك دِيارَنا وأَهْلِينا ومُجْتَمَعَنا.
قال عليٌّ رضي الله عنه: " ما كنت أرى
أحدًا يَعْقِلُ، يَنامُ حَتى يَقْرَاَ آيَةَ الكُرسيِّ، وخَواتِيمَ سُورةِ البقرة
".
اللهم احفظنا
بِحِفظِك، واستعملنا في طاعتك وما يُرضيك، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا
وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من
زكّاها، أنت وليها ومولاها، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام
قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا عدوا ولا حاسدين، اللهم أصلح لنا
ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا
التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أنزل على
المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين
حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً
وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك،
اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم
يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم
وفق ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيدهم بتأييدك، واجعلهم أنصارا لدينك، وأغظ بهم أعدائك
واجمع كلمة الناس عليهم يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين
وعدوان المعتدين، اللهم احمِ حدودها وانصر جنودها، وأصلح حكامها وأهلها يا أرحم
الراحمين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها من الخارج والداخل، اللهم من أراد
بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في تدميره يا قوي يا عزيز،
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات إنك
سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|