الْمَسْئُولِيَّةُ
العُظْمَى، الشبابُ والأُسْرة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقُوا اللهَ تعالى، وتَذَكَّرُوا
مسْئُولِيَّتَكُم تُجاهَ شَبابِكُم وأَولادِكم، فإنها مِن أعْظَمِ الأماناتِ
والواجِبات. قال ابنُ عباسٍ رضي الله
عنهما: كُنْتُ خَلْفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: ( يا غُلامُ:
إنِّي أُعَلِّمُك كَلِمات: احْفَظ اللهَ يَحْفَظْك، احْفَظ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك،
إذا سَأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ، وإذا اسْتَعَنْت فاسْتَعِن بِالله ) وعَن عُمَرَ بنِ
أَبِي سَلَمَةَ رضي اللهُ عنْهُما قال: كُنْتُ غُلامًا في حَجْرِ النبيِّ صلى الله
عليه وسلم، وكانت يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: ( يا غُلامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمينِك، وَكُلْ مِمَّا يَلِيك ). فَفِي
هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ وغَيْرِهِما ما يَدُلُّ على عِنايَةِ النبيِّ صلى الله
عليه وسلم بإعدادِ النَّشْءِ وتَرْبِيَتِهِم مُنْذُ الصِّغَرِ على دِينِ الله.
عبادَ الله: إذا رَأَيْتُم التَصَرُّفاتِ
الغَرِيبَةَ التي تُخالِفُ الشَّرْعَ أو تَخْرِمُ المُرُوءَةَ كَثُرَت في شبابِنا، فاعْلَمُوا أَن جانِبَ التربِيةِ لَدَيْنا ضَعِيفٌ.
إنّ العِنايةَ بالنَّشْءِ والحِرْصَ على
تَربِيَتِهِم وإعدادِهِم، واجبٌ عَلينا جَمِيعا. على الآباءِ والمُعَلِّمِين
والدُّعاةِ والمَسْئُولِين، لأن الأُمَّةَ بَعْدَ اللهِ بِشَبابِها، فإذا فَسَدَ
شبابُها وأَهْمَلُوا واجباتِهِم نَحْوَ أَنْفُسِهِم وعقيدتِهِم وأُمَّتِهِم، فَقَد
عَرَّضُوا أَنْفُسَهُم وأُمَّتَهُم لِلْخَطَر.
أيُّها الآباءُ: تَذَكَّرُوا أَنّ أبناءَكم
أمانةٌ في أعناقِكُم سَتُسْأَلُون عَنْها، فابذُلُوا ما تَسْتَطِيعُون في سَبِيلِ
إصلاحِهِم، ولا تَجْعَلُوا مَشاغِلَ الدنيا سَبَبًا لِلبُعْدِ عَنْهُم وعن تربيتِهم، ولا تَجْعَلُوا عاطِفَةَ الأُبُوَّةِ تَحْمِلُكم على تَوْفِيرِ ما يُرِيدُون على
حِسابِ دِينِهِم وأخلاقِهِم.
وأنتم أيُّها المُدَرِّسُون: إنَّ الحِمْلَ
عَلَيكُم كَبيرٌ، فتَذَكَّرُوا أَنَّكُم دُعاةٌ إلى اللهِ، قَبْلَ أنْ تَكُونُوا
مُدَرِّسِينَ لِلْمَوادِّ التي كُلِّفْتُم بِها، فَإِنَّ الدعوةَ في حَقِّكُم
مَطْلُوبَةٌ، على مُدَرِّسِي المَوادِّ الشَّرْعِيَّةِ وغَيْرِهِم. كُلُّكُم
دُعاةٌ ومُرَبُّون، بأفعالِكُم وأقوالِكُم.
ويُشارِكُ الآباءَ والمُعَلِّمِين في
المَسْؤُولِيَّة: الدُّعاةُ ورجالُ الأَمْنِ والمَسْئُولُون في الدَّولَةِ ورجالُ
الإعلامِ والصَّحافَةِ. فإيَّاكُم والتَساهُلَ، أو الالْتِفاتَ إلى الدَّعَواتِ
الخَبِيثَةِ المُزَخْرَفَةِ، التي تَدْعُو المُجْتَمَعَ المُسْلِمَ إلى
الانْسِلاخِ مِنْ دِينِه وأخلاقِه، والتَخَلِّي عن مَسْئُولِيَّاتِه، مِن خِلالِ
الدَّعْوَةِ إلى الحُرِّيّاتِ الشَّخْصِيَّةِ، والتَعامُلِ الدِّيمُقْراطِيِّ
المَزْعُومِ، والتي يُسْعَى مِن خِلالِها إلى تَرْكِ الحَبْلِ على الغارِبِ في
البُيُوت والمُجْتَمَعِ والمَدارِسِ، ونَشْرِ ثَقافَةِ المُجُتَمَعاتِ الغَرْبِيةِ
التي تَبْعَثُ في الشَّبابِ والشابَّاتِ الاستقلالَ في الرَّأْيِ والتَّصَرُّفاتِ
حتى لَو خالَفَت دِينَهُم، وإرْهابِ الآباءِ مِن القِيامِ بِإدارةِ بُيُوتِهِم
والقِوامَةِ عَلَيْها وإِصْلاحِها. ناهِيكَ عَن الكلامِ فيما يُسَمَّى بِ:
العُنْفِ الأُسَرِيِّ، والذي وُظِّفَ عَبْرَ بَعْضِ وَسائِلِ الإعلامِ وقَنواتِ
التَّوَاصُلِ عَلَى غَيْرِ ما وُضِعَ له وقُصِدَ مِنْه، حَتى صارَ تَمَرُّداً
أُسَرِيًّا، لِمَا يَدُسُّونَه مِن السُّمُومِ في بُيُوتِ المسلمين، مِن خِلالِ
تَسْلِيطِ الضَّوْءِ على القَضايا الشاذَّةِ النادِرةِ التي لا تُوجَدُ إلا عِنْد
الشَّوَاذِّ، وإشعارِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ الآمِنِ الغافِلِ، بِأَنَّ
البُيُوتَ تَعُجُّ بِأَنِينِ المُعَنَّفاتِ والمُعَنَّفِين، وأنَّ الآباءَ
والأزواجَ قد تَجاوَزُوا الخُطُوطَ الحَمْراءَ في تعامُلِهِم، وأَنَّه يَجِبُ أَنْ
يُؤْخَذَ عَلَى أَيْدِيهِم، كَيْ يَتْرُكُوا أولادَهَم ونِساءَهُم أحْراراً في
تَصَرُّفاتِهِم واخْتِياراتِهم. مَعَ العِلْمِ أنَّ الواقِعَ يُثْبِتُ خِلافِ ذلك، وَلَيسَ هُناك أعظَمُ مِنْ شهادةِ الواقِعِ. تَأَمَّلُوا واقِعَكُم يا عبادَ
اللهِ: إذا جَلَسَ كُلُّ واحِدٍ مِنْكُم مع زُمَلائِهِ أو أقارِبِهِ أو جماعَةِ
مسجِدِه أو جِيرانِه، هل يَرَى هذا العُنْفَ المَزْعُومَ؟ لا واللهِ لا يَراه، بَلْ سَيَرَى بِأُمِّ عَينِيه عَكْسَ ذلك، سَيَرَى أَنَّنا تَساهَلْنا وأهَمَلْنا
كَثِيراً مِن مَسْئُولِيَاتِنا إلا مَن رَحِمَ اللهُ مِنَّا، فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُم
ونُكَذِبُ أبصارَنا وأسماعَنا؟! ثُمَّ ما الذي يَضِيرُ إذا لَمْ يَجِدْ أَبُوكَ
حَلاًّ في إصلاحِ خَطَئِكَ إلا بالضَّربِ والعِتابِ؟ وهل قامَت بُيُوتُنا بَعْدَ
اللهِ إلا بِهَيْبَةِ آبائِنا وحَزْمِهِم ونُصْحِهِم؟ وأمَّا الأخطاءُ النادِرةُ، والشِّدَةُ غَيْرُ المُبَرَّرةِ التي قد تَقَعُ مِن الأبِ أَحْيانًا، فَهَذِهِ لا
يَسْلَمُ مِنْها أَحَدٌ، فَقَدْ وُجِدَت في خَيْرِ القُرُونِ وتُنْسَى مَع مُرُورِ
الزَّمن، ولَها ذِكْرَى جَمِيلَة، فَما زالَ كثيرٌ مِنّا يَدْعُو لأبيهِ
ومُعَلِّمِهِ بِسَبَبِها، لِأنَّها تَرَكَت أثراً جَمِيلاً في نُفْسِه ومَنَعَتْه
بَعْدَ اللهِ من شَرٍّ كَثِير.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ،
وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ
تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عبادَ الله: إن الدَّعْوَةَ إلى مِثْلِ هذا
الانْفِلاتِ مِن قِبَلِ أعْدائِنا، ليسَت خاصًّةً بالأُسْرَة. بَلْ هي عامَّةٌ في
شُؤُونِ الأُمَّةِ الإسلامِيَّةِ ومُجْتَمَعاتِ المُسْلِمين. فالسَّعْيُ حَثِيثٌ
وعَلَى أَشُدِّه في إسْقاطِ هَيْبَةِ الجُنْدِيِّ ورَجُلِ الأمنِ، وهَيْبَةِ
المُعَلِّمِ في المَدْرَسَةِ، حتى الزوجَ يُرِيدُونَه في بَيْتِه مُعَطّلاً لا
غَيْرَةَ له، ولا مُهِمَّةَ لَه إلا الجِماعَ فقط. والسَّعْيُ حَثِيثٌ أيضاً في
إسقاطِ مَكانَةِ المَسْئُولِ، وَوَلِيِّ الأمْرِ، من خِلالِ الإنكارِ العَلَنِي
باسمِ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ والمُطالَبَةِ بالحُقُوقِ، حتى لَو أَدَّى ذلك إلى
إسْقاطِه. ولذلك تَجِدُ الأعْداءَ يَغْتاظون حينَما يرون أدِلَّةَ السَّمْعِ
والطاعَةِ ولزومِ الجماعةِ، والوفاءِ بِبَيْعَةِ ولِيِّ الأمرِ في العُسْرِ
واليُسْرِ والمَنْشَطِ والمَكْرَه. يُرِيدُون بِالمُسْلِمِين الفَوضَى
والانْفِلاتَ وعَدَمَ الاسْتِقْرارِ.
ربنا
أعِنّا ولا تُعِنْ عَلَيْنا، وانْصُرْنا ولا تَنْصُرْ عَلَيْنا، وامْكُرْ لَنا ولا
تَمْكُرْ عَلَيْنا، واهدِنا ويَسِّرْ الهُدَى لَنا، وانْصُرْنا عَلَى مَن بَغَى
عَلَيْنا .اللَّهُم اجْعَلْنا لَكَ شاكِرِين، لَكَ ذاكِرِين، لَكَ راهِبِين، لَكَ
مِطْواعِين، إِلَيْك مُخْبِتِين، إِلَيْك أَوَّاهِين مُنِيبِين. رَبَّنا تَقَبَّل
تَوْبَتَنا، واغْسِلْ حَوْبَتَنا، وأَجِبْ دَعْوَتَنا، وثَبِّت حُجَّتَنا، واهْدِ
قُلُوبَنا، وسَدِّدْ أَلْسِنَتَنا، واسْلُلْ سَخِيمَةَ صُدُورِنا.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام
قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا عدوا ولا حاسدين، اللهم أصلح لنا
ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا
التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أنزل على
المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين
حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً
وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك،
اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم
يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم
وفق ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيدهم بتأييدك، واجعلهم أنصارا لدينك، وأغظ بهم أعدائك
واجمع كلمة الناس عليهم يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين
وعدوان المعتدين، اللهم احمِ حدودها وانصر جنودها، وأصلح حكامها وأهلها يا أرحم
الراحمين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها من الخارج والداخل، اللهم من أراد
بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في تدميره يا قوي يا عزيز،
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات إنك
سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|