الاستعاذةُ
باللهِ مِن أربع ( 2 )
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا
أَنَّ الاعتِصامَ بِاللهِ سَبِيلُ النَّجاةِ، قال تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير )، أي:
اعْتَضِدُوا باللهِ واستَعِينُوا بِه وتَوَكَّلُوا عَلَيه وتَأَيَّدُوا بِه، واجْعَلُوهُ عِصْمَةً لَكُم مِمَّا تَحْذَرُون، والتَجِئُوا إليه في جميعِ
أُمُورِكُم دَقِيقِها وجَلِيلِها، مَعَ الثِّقَةِ بِه وَحْدَه لا إلهَ إلا هو.
ومِن الاعْتِصامِ باللهِ: الاستِعاذَةُ بِهِ
سُبْحانَه مِن جَمِيعِ ما يَحْذَرُ مِنه العَبْدُ، خُصُوصاً ما يَتَعَلَّقُ
بِدِينِهِ وأَخْلاقِه، والتي مِن أَهَمِّها ما وَرَدَ في قَولِه صلى الله عليه
وسلم: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، ومِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ
تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ ).
يا لَها مِن أُمُورٍ أربَعَةٍ، إذا تأَمَّلَها المُسْلِمُ، عَرَفَ السَبَبَ الذي
مِن أَجْلِهِ خَصَّها رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالذِّكْر.
أَوَّلُها قَوْلُه: ( اللَّهُمَّ إنِّي
أَعُوذُ بِكَ مِن قَلْبٍ لا يَخْشَع )، أي: أَعِذْنِي مِن قَلْبٍ لا يَخْشَعُ
لِذِكْرِكَ ومَوْعِظَتِكَ، ولا يَخْشَعُ في الصَّلاةِ والدُّعاءِ، ولا يَلِينُ
لِكَلامِكَ، ولا تُؤَثِّرُ فيه النصيحةُ، فإِنَّ هذِهِ صِفاتُ القَلْبِ القاسي، وقَدْ قالَ تعالى: ( فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ
فِي
ضَلَالٍ
مُّبِينٍ
).
الثاني: قَوْلُه: ( ومِنْ دُعاءٍ لا يُسْمَع
): أي، أَعُوذُ بِك مِن دُعاءٍ لا يُستَجاب، لِأنَّ اللهَ تعالى جَوادٌ كَريمٌ
سَميعٌ قَريبٌ، يُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِي. فإِذا لَم يُقْبَلْ دُعاءُ الشّخْصِ، دَلَّ عَلَى أَنَّه مُحْرُومٌ، وأَنَّه وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِن مَوانِعِ اسْتِجابَةِ الدُّعاءِ، كَأَكْلِ
الحَرامِ، أَو اسْتِعْجالِ اسْتِجابَةِ الدعاءِ، فإنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ
وسَلَّم قال: ( يُسْتَجابُ لِأَحَدِكُم ما لَم يَعْجَل )، وكَأَنْ يَدْعُوَ
وَقَلْبُهُ غافِلٌ لاهٍ، أَوْ يَدْعُوَ بِإِثْمٍ أَو قَطِيعَةٍ. والدّعاءُ
بِإِثْمٍ: أَن يَسْأَلَ اللهَ أَنْ يُيَسِّرَ الزِّنا أَوْ شُرْبَ الخَمْرِ أو
الدُّخانِ، أو تَسْهِيلَ المُعامَلاتِ الرِّبَوِيَّةِ. والدُّعاءُ بِالقَطِيعَةِ:
كَأَن يَدْعُوَ بِأَنْ يُفَرِّقَ اللهُ شَمْلَ أَحَدِ أَقارِبِه، أَو أَنْ
يَصْرِفَ اللهُ عَنْه إخْوانَه وأَخَواتِه، وما شابه ذلك مِن الأدْعِيَةِ التي
تَتَضَمَّنُ القَطِيعَةَ والتَفَرُّقَ.
الثالثُ: قَوْلُه ( ومِن نَفْسٍ لا تَشْبَع
): أي، أعوذُ بِكَ مِن نَفْسٍ لا تَقْنَعُ بِرِزْقِ اللهِ وعَطائِه، ولا تَشْبَعُ
مِنْ التَنافُسِ على المَلَذّاتِ وحُطامِ الدنيا الفانِي، ولا تَشْبَعُ مِن
كَثْرَةِ الطعامِ وأَصْنافِهِ وأَلْوانِهِ وتَفَنُّناتِه، التي أَصْبَحَت اليومَ
ظاهِرةً بِشَكْلٍ مُخِيف، ولِأَنَّ النَّفْسَ التي لا تَشْبَعُ لا تَخْشَع، وبِعُرْضَةٍ إلى أَكْلِ الحَرَام، بِسَبَبِ عَدَمِ القناعَةِ. ولأنَّ النَّفْسَ
إذا كانت لا تَشْبَعُ، يَضِيعُ مِيزانُ الحُبِّ والبُغْضِ عِنْدَها.
الرابِع: قوله ( وأَعوذُ بِك مِن عِلْمٍ لا
يِنْفَع ): أي، أَعِذْنِي واعْصِمْنِي مِن عِلْمٍ لا يُصْلِحُ قَلْبِي وَعَمَلِي، ولا أَسْتَعِينُ بِهِ على طاعَتِك، ولا أَزْدادُ بِهِ رِفْعَةً وخَشْيَةً، ولا
يُهَذِبُ أَخْلاقِي. لأنّ المَقْصُودَ مِن العِلْمِ العَمَلُ بِهِ، وإصْلاحُ النَّفْسِ، ودَعْوَةُ الناسِ إليه، وأَنْ يَكُونَ صاحِبُهُ قُدْوَةً صالحةً. ثُمَّ إِنَّ
العَبْدَ قَدْ يَجْمَعُ العِلْمَ النافِعَ، ولكنَّه لا يَنْتَفِعُ بِه، بِسَبَبِ
عَدَمِ الإخلاصِ، أو عَدَمِ تَطبيقِ العِلْمِ على النَّفْسِ أَوَّلاً. وكَذلك قَدْ
يَجْمَعُ الإنسانُ العِلْمَ الكَثيرَ في أَنواعِ الثقافاتِ، لكِنَّها مِن سَفاسِفِ
العِلْمِ وحُثالَةِ الأفكارِ وزُبالَةِ الأذهانِ، كما هي حالُ أهْلِ البِدَعِ، أو
أَهْلِ الأهواءِ المُخالِفين لِلكِتابِ والسُّنَّةِ، مِمَّن يَسْعَونَ لِنَشْرِ
الباطِلِ وما يُخالِفُ تَعالِيمَ الإسلامِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ
الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ
السِّمَاواتِ وَالأَرْضِ، جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى
وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِِّ شَيءٍ قَدِير،
مَا يَفْتَحِِ اللهُ للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:-
عبادَ
الله: لَقَدْ خَتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الدُّعاءَ بِالتَّأْكِيدِ
عَلَى هذِهِ الأُمُورِ الأَرْبَعَةِ، والاستِعاذَةِ مِنها، فقال: ( أَعُوذُ بِكَ
مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ )، لِيَعْلَمَ المُؤمِنُ أَهَمِّيَّتَها، وَوُجُوبَ
الخَوفِ مِنْها، وبَذْلَ أَسبابِ السلامَةِ مِنْها. فإِنَّ وُجُودَها سَبَبُ فسادِ
أَحْوالِ العَبِدِ، بل وأَحْوالِ العالَمِ كُلِّه. لأنَّ وُجُودَها يَعْنِي:
قَسْوَةَ القُلُوبِ، وكَثْرَةَ الجَهْلِ، وانتشارَ الباطِل، وغِيابَ القُدْوَةِ، والتنافُسَ على الدُّنيا، وعَدَمَ استجابَةِ دُعاءِ الدَّاعِي.
فَيا لَه مِن دُعاءٍ عَظيمٍ لا يَنْبَغِي
لِلمُسْلِمِ أَنْ يَغْفَلَ عنه.
ثُم اعْلَمُوا يا عبادَ الله، أنه لَم
يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا ذِكْرُ هذه الأربع، وأما جُمْلَةُ ( ومِن
عَيْنٍ لا تَدْمَع )، فَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُها.
اللهم
إنا نعوذُ بِكَ مِن قَلْبٍ لا يخشع, ودُعاءٍ لا يُسْمَع, ونَفْسٍ لا تَشْبَع,
وعِلْمٍ لا ينفع، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا
الجلال والإكرام, اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر
والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في
الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا
وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية
عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد
صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً
وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم
احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في
كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين،
اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه
البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم
الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|