سُورةُ
الشَّرْحِ مَعَ التَّنْوِيهِ بِفَضْلِ عُلَماءِ الحديث
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، وتَذَكَّرُوا فَضْلَ اللهِ عَلَى
عِبادِه، فإِنَّ فَضْلَ اللهِ عَظِيم، وكُلَّمَا كَمُلَ إيمانُ العَبْدِ، كَمُلَ
فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ، ولذلكَ كانُ فَضْلُ اللهِ علَى أَنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ، أَكْمَلَ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِم، وفَضْلُ اللهِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى
الله عليه وسلم أَكْمَلَها، ومِن ذلكَ ما وَرَدَ في سُورَةٍ عَظِيمَةٍ، ذَكَرَ
اللهُ تَعالى فِيها ما مَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ
ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ). فَفِي هذه السُّورَةِ، يَقُولُ تَعالَى مُمْتَنًّا على رسولِه: ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) أَيْ:
نُوَسِّعُهُ لِلتَّوحيدِ والإيمانِ وشَرائِعِ الدِّينِ والدَّعوةِ إلى الله،
والاتِّصافِ بِمَكارِم الأخلاقِ، والإِقبالِ عَلَى الآخِرَةِ، والبُعْدِ عَن
الدُّنيا، والرِّضا بِقضاءِ اللهِ وقَدَرِه، وتَسْهِيلِ الخَيْراتِ، فَلمَ يَكُن
ضَيِّقًا حَرَجًا، لا يَكادُ يَنْقادُ لِخَيْرٍ، ولا تَكادُ تَجِدُهُ مُنْبَسِطًا.
هذا هُو مَعْنَى انشِراحِ الصَّدْر. فأنتَ إذا قُلْتَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْري، لابُدَّ أَنْ يَحْضْرَ هذا المَعْنَى في قَلْبِكَ، ألا وهو انْفِساحُهُ للتوحيدِ
والإيمانِ، ومَحَبَّةِ الطاعَةِ وبُغْضِ المَعْصِيَةِ، والرِّضا بالقضاء، والصبرِ
على المَشاقِّ والأذَى. ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ) أي طَرَحْناهُ وعَفَونا، وسامَحْناكَ وغَفَرْنا ذَنْبَكَ، ( الَّذِي أَنْقَضَ ) أي: أَثْقَلَ وأتْعَبَ
وآلَمَ ( ظَهْرَكَ )، كما قال تعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ). ثم قال تعالى: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ )
أَيْ: أَعْلَيْنا قَدْرَكَ، وَجَعَلْنا لَكَ الثَّناءَ الحَسَنَ العالِي، الذي
لَمْ يَصِلْ إِلَيهِ أَحَدٌ مِن الخَلْقِ، فَلا يُذْكَرُ اللهُ إلا ذُكِرَ مَعَهُ
رسولُه صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ دَخَلَ في الإسلامِ، لابُدَّ أَنْ يَنْطِقَ
بِالشهادَتَيْن، وفي الأذانِ كَذلِك، والإقامةِ، والخُطَبِ والمَواعِظِ، وبَعْدَ
الوُضُوءِ، وفي التَشَهُّدِ في الصلاةِ، بَلْ على ظَهْرِ الأرضِ، أَيْنَما
تَوَجَّهْتَ، جَنُوباً وشِمالاً، وشَرْقاً وغَرْباً، وكذلكَ في وسائِلِ الإعلامِ
المَحَلِّيَّةِ والعالَمِيَّةِ في كُلِّ دَوْلَةٍ وبَلَدٍ، تَجْدُ مَظاهِرَ
الإسلامِ مُشاهَدَةً ومَسْمُوعَةً، وفيها يُرْفَعُ الأذانُ لِلصلاةِ على مَدارِ
الساعَةِ، والنُّطْقُ بالشهادَتَيْنِ – أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رسولُ الله – فَيَا لَها مِن مُعْجِزَةٍ خالِدَة
ظاهِرَةٌ، وآيَةٍ باهِرَةٌ، لَمْ تَغِبْ عَن أَسْماعِ العالَمْ، بَلْ هِيَ في
ازْدِيادٍ وظُهُور. وَغَيْرُ ذلِكَ مِن الأُمُورِ التي أَعْلَى اللهُ بِها ذِكْرَ
رَسُولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ولَه فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ مِن المَحَبَّةِ
والإِجْلالِ والتعظيمِ ما لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ، بَعْدَ اللهِ تَعالَى،
فَجزاهُ اللهُ عَن أُمَّتِهِ أَفْضَلَ ما جَزَى نَبِيًّا عَن أُمَّتِه. واعْلَمُوا
يا عِبادَ اللهِ أَنَّ كُلَّ مَن نَصَرَ سُنَّةَ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
وعَمِلَ بِها ونَشَرَها ودافَعَ عَنْها، لابُدَّ وأَنْ يَكُونَ لَهُ نَصيبٌ مِن
هذِه الرِّفْعَة، وكُلَّ مَن تَنَقَّصَ سُنَّةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم
وكَرِهَها، وضاقَ صَدْرُهُ مِن ظُهُورِها وانْتِشارِها، لابُّدَ وأَنْ يَبْتُرَهُ
اللهُ ويَبْتُرَ ذِكْرَه وقَلْبَهُ، ويَبْتُرَه مِن جَمِيعِ القُرَبِ والأعمالِ
الصالِحةِ، فَلا يَذُوقُ لَها طَعْمًا ولا يَجِدُ لَها حَلاوَةً، وإِنْ باشرَها
بِظاهِرِهِ، فَقَلْبُهُ شارِدٌ عَنْها، سُئِلَ أبو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ عَن أُناسٍ
يَجْلِسُونَ في المَسْجِدِ لِيُعَلِّمُوا الناسَ ولَيْسُوا أَهْلاً لِذلك؟ فقال:
مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ الناسُ إِلَيْه، ولَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ
يَمُوتُونَ ويَحْيَى ذِكْرُهُم، وأَهْلُ البِدْعَةِ يَمُوتُونَ ويَمُوتُ
ذِكْرُهُم، لِأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ أَحْيَوْا ما جاءَ بِه الرسولُ صلى الله
عليه وسلم فَكانَ لَهُم نَصِيبٌ مِن قَوْلِه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ )، وَأَهْلُ البِدْعَةِ شَنَأُوا ما جاءَ بِهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم فَكانَ
لَهُم نَصِيبٌ مِن قَوْلِه: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ). وانْظُرُوا إلى
أَئِمَّةِ الحَدِيثِ، الذين دَوَّنُوا سُنَّةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وحَفَظُوها لِلأُمَّة، كمالِكٍ والبخاريِّ ومُسْلِمٍ، وأحمدَ وأبي داودَ
والترمذيِّ والنسائي، وغيرِهِم، كيف رَفَعَ اللهُ ذِكْرَهُم، كُلَّمَا ذُكِرَ
حَدِيثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لابُدَّ وأن يَتْبَعَهُ أسماءُ هؤلاءِ
الأُسُودِ الجهابِذَةِ. حَتَّى صارَ الطَّعْنُ فِيهِم أو في أَحِدِهِم علامَةٌ على
الزَّيغِ والضَّلالِ والانحِراف، خُصُوصاً صَحِيحَي البخاريِّ ومسلم، أَشْهَرُ كُتُبِ
الحديثِ قاطِبَة، وَأجَلُّها وأَصَحُّها بعد القرآن، بإجماعِ الأُمَّةِ وأَئِمَّةِ
الإسلام.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى
الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ
أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ الله: إنَّ في قَوْلِه تعالى: (
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) بِشارَةٌ
عَظيمةٌ، أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ عُسْرٌ وصُعُوبَةٌ، فَإِنَّ اليُسْرَ يُقارِنُه
ويُصاحِبُه، حَتى لَوْ دَخَلَ العُسْرُ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَ عَلَيهِ اليُسْرُ،
فَأَخْرَجَه كَما قال تَعَالَى: ( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )
وكَما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( وإنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ
العُسْرِ يُسْرا ).
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ رسولَهُ أَصْلًا،
والمُؤْمِنينَ تَبَعًا بِشُكْرِه والقِيامِ بِواجِبِ نِعَمِهِ، فقال: ( فَإِذَا
فَرَغْتَ فَانْصَبْ ) أَيْ: إذا تَفَرَّغْتَ مِن أَشْغالِك، وَلَمْ يَبْقَ فِي
قَلْبِكَ ما يَعُوقُهُ، فَاجْتَهَدَ فِي العِبادَةِ والدُّعاءِ.
(
وَإِلَى رَبِّكَ ) وَحْدَه ( فَارْغَبْ )، لا إلى الخَلْقِ، ولا إِلى البَشَرِ، مَهْما كانت مكانَتُهُم. وأَكْثِرْ مِن الدُّعاءِ، وأَعْظِمِ الرَّغْبَةَ فِي
إِجابَةِ دُعائِكَ، وَقَبُولِ عِبادَاتِكَ، واجْعَلْ حياتَكَ جادَّة، وصِلَتَكَ
باللهِ قوِيَّة، ولا تَكُن مِمَّن إذا فَرَغُوا وَتَفَرَّغُوا لَعِبُوا
وَأَعْرَضُوا عَن رَبِّهِم وعَن ذِكْرِه، فَتَكُونَ مِن الخاسِرِين.
اللهم اشرح صُدُورَنا،
ونَوِّر قُلُوبَنا، واغفر ذُنُبَنا، ويَسِّر أُمُورَنا، واجعلنا من أَتْباعِ
رسولِك ظاهِرا وباطنا، واحشرنا في زمرته وارزقنا ورود حوضه يا رب العالمين، اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم
احفظنا بالإسلام قائمين, واحفظنا بالإسلام قاعِدِين ولا تشمت بنا أعداء ولا
حاسدين، ، اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا
آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل
شر، اللهم
آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل
باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع
رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين،
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد
لها، اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في
تدميره يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها
وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ
وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|