فضل سورة البقرة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واعْلَمُوا أنَّ القرآنَ الكريمَ, أعظَمُ الكُتُبِ وأَفْضَلُها وأصْدَقُها. وهُوَ أَعْظَمُ كُتُبِ اللهِ المُنَزَّلَةِ وأشْمَلُها والمُهَيْمِنُ عليها, وهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ, وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ, وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وقَدِ اشْتَمَلَ علَى آياتٍ مُبيناتٍ، وسُوَرٍ مُعجزاتٍ تناولَتْ العقيدةَ وبَيَّنَتْها أحْسَنَ بَيان. وبَيَّنَتْ أحكامَ الشريعةِ ومقاصِدَهَا، وقصصَ الأُممِ السابقةِ ومواعِظَهَا، ووَرَدَ فيهَا الترغيبُ فِي الجنانِ، والترهيبُ مِنَ النيرانِ، وقَدْ خصَّ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى بعضَ سُوَرِ القرآنِ وآياتِهِ بِبَعْضِ الفَضائِلِ التي لا تُوجَدُ في غيرِها. ومنهَا سورةُ البقرةِ: فهِيَ أطولُ سُورةٍ في القرآنِ، وهيَ سُورَةٌ مَدَنِيَّة. افتُتِحَتْ بِذِكْرِ القرآنِ وهِدايَتِهِ لِلمُتقين وأوْصافِهِمُ التي مِنْ أَوَّلِها: الإيمانَ بالغيب, لأنه أولُ وَصْفٍ يُفَرِّقُ بينَ الإنسانِ العاقِلِ, والإنسانِ البَهِيمِيِّ الذي لا يُؤْمِنُ إلا بالأشياءِ المَحْسُوسَةِ المُشاهَدة. فالمُؤْمِنُ بالغيبِ يقول: آمَنْتُ بِالله, وبِما جاءَ عَنِ اللهِ, على مُرَادِ الله, وآمنْتُ بِرسولِ الله, وبما جاءَ عن رسولِ اللهِ, على مُرادِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. والسببُ في ذلكَ أن الإيمانَ بالغيبِ شأنُه عظيمٌ, فهو شِعارُ المؤمنِ, وأصلُ انقيادِه لله. بِخِلافِ مَن يَشترطُ على ربِّهِ أنْ لا يُؤْمِنَ إلا بِما رأَتْهُ عَينُه وأَقَرَّهُ عقلُه, فَهذا ليس بِمؤمِن, وإن صلى وصام. وَقَدْ أَخبرَ اللهُ تعالى أن مِن عقيدةِ الكفار, أنَّهُم لا يُؤْمِنُونَ إلا بِما رَأَتْهُ أَعْيُنُهُم, قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ).
وقَدْ حَثَّنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قراءَةِ سورةِ البقرة وبَيَّنَ لنَا فضلَهَا، فقالَ: ( اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ). فهي بَرَكَةٌ على صاحِبِها المُحافِظِ عليها, لِما فيها مِنَ المنافِعِ العَظيمةِ والخيرِ الكثير, والمَواعِظِ والعِبَرِ. وهي أيضاً بَرَكةٌ على عُمُرِ الإنسانِ ومالِهِ وَوَلَدِهِ وحياتِه وبَعْدَ موتِه. فإذا أردتَ البّرَكةَ يا عبدَ الله, فابْذّلْ أسبابَها, والتي مِنها: المُحافَظَةُ على قِراءةِ سورةِ البَقَرَةِ وفَهْمُ معناها, والعَمَلُ بها.
وكذلكَ: فإنَّ تَرْكَ سورةِ البَقَرَةِ حَسْرَةٌ على هاجِرِها, وذلكَ عِنْدما يرى الفَضْلَ الذي يَحْصُلُ لِأصحابِها في الدنيا والآخرة. وَما أَكْثَرَ الذين شُغِلُوا بعُلُومِ الدُّنيا وفِتْنَتِها وزُخْرُفِها عن سورةِ البَقَرةِ وغيرِها.
وكذلك: فإنَّ سورَةَ البَقَرةِ لا تَسْتَطيعُها البَطَلَة, أي: أَهْلُ الباطِل, فإنَّ مَنْ قرأ البقرةَ أو حَفِظَها, واشتغَلَ بِفَهْمِ معانِيها, فإنَ أهلَ الباطِلِ والعقائِدِ الباطِلَة, لا يَقْدِرونَ عليه. ويَدْخُلُ في البطَلَةِ: السَحَرَةُ, كما فَسَّرَ ذلك بَعْضُ رُواةِ الحَديث.
ومِنْ فضائلِ سورةِ البقرةِ: أنَّ قراءتَهَا تزيدُ المسلمَ حصانةً ومَنَعَةً وحِفْظاً مِنَ الشياطينِ فِي نفسِهِ وبيتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَة ). أي لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم خالِيَةً مِن الذِّكرِ والعِبادَة, فتكونُ كالمقابرِ, وتكونون َكالمَوْتَى فيها. فكيفَ إذا أُضيفَ إلى ذلك: انْشِغالُ أهلِ البيتِ بِما يُلْهِي عن ذِكْرِ اللهِ وطاعَتِه؟.
ومِنْ فَضائِلِ سورةِ البقرة: أنَّها اشتملَتْ علَى أعظمِ آيةٍ فِي القرآنِ الكريمِ، وهيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، فعَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ رضيَ اللهُ عنهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: ( أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ ). فقال: ( اللهُ لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم ) فقَالَ عليه الصلاةُ والسلام:( لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ ). وكذلك: فإنَّ مَنْ قرأَ آيةَ الكُرْسيِّ حينَ يأْوِي إلى فِراشِهِ مِنَ الليل, فإنه لا يَزالُ عليهِ مِنَ اللهِ حافِظٌ, ولا يقربُه شيطانٌ حتى يُصبِح. وكذلكَ مَنْ قَرأها دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ مَكْتوبةٍ, لَمْ يَمْنَعْهُ مِن دُخولِ الجنَّةِ إلا أنْ يَموت, كما أخبَرَ بذلكَ الرسولُ صلى اللهُ عليه وسلم.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: ومِنْ فضائِلِ سورةِ البقرة: ما وَرَدَ في فَضْلِ خاتِمَتِها, فَقَدْ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ ). وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضاً مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ, لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: ( أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ, وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ ).
والأدِلَّةُ على فَضْلِ هذِهِ السُّورَةِ أو فَضْلِ بَعْضِ آياتِها يا عِبادَ اللهِ, تَزيدُ على ما سَمِعْتُم. فلا يَلِيقُ بالمؤمِنِ الذي قَرَأَها أوْ سَمِعَها, أنْ يَغْفَلَ عَنْ تِلاوَتِها, وَتَعَلُّمِ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيهِ مِن معانِي.
ويَزْدادُ الفَضْلُ, ويكْثُرُ الخيرُ والبَرَكةُ, إذا أضافَ المُؤْمِنُ إليها سورةَ آلِ عمران, قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( اقرءُوا الزَّهْرَاوَينِ, البقرةَ وسورةَ آلِ عِمران, فإنهما تأتِيانِ يَوْمَ القيامةِ كأنهما غَمامتان, أو كأنهما غَيَايَتَانِ, أوْ كأنهما فُرْقانٌ مِنْ طَيْرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عَن أصحابِهِما ).
اللهم اجعل القرآنَ ربيعَ قلوبِنا, وجَلاءَ أحزانِنا, وذهابَ هُمُمِنا وغمومنا. اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |