فضل العلم وحث الطلاب على استحضار النية الصالحة في
تعلم العلوم
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله:
اتقُوا اللهَ تعالى، وخُذُوا مِن العِلْمِ ما تَقُومُ بِهِ عَقيدَتُكُم وتَصْلُحُ
بِهِ أَعْمالُكُم، واعْلَمُوا أَنَّ نَبِيَّكُم صلى اللهُ عليه وسلم قال: ( إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انتزاعًا يَنْتَزِعُه مِن
العِبادِ، ولكن يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَماء، حَتَّى إذا لَمْ يُبْقِ
عالِمًا، اتَّخَذَ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ
عِلْمٍ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا ).
فَفِي هذا
الحديثِ العظيمِ فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُها:
أولُها: فَضْلُ
العُلَماءِ: فإنَّ اللهَ تعالى فَضَّلَ العُلَماءَ وأَثْنَى عَلَيْهم
ومَيَّزَهُم عَن غَيْرِهِم، قال تعالى: (شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقال
تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ ). وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ العُلَماءَ وَرَثَةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينارًا ولا دِرْهَمًا، وإنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَن أَخَذَهُ
أَخَذَ بِحَظٍّ وافِر ). والعُلَمَاءُ الذين
هُم وَرَثَةُ الأنبياءِ: هُم عُلَماءُ التوحيدِ والشَّرِيعَةِ، فإنَّ
الأنبياءَ وَرَّثُوا عِلْمَ العقيدةِ وعِلْمَ الحَلالِ والحَرامِ.
وأَمَّا عُلَماءُ الدنيا وعُلَمَاءُ الْمُخْتَرعاتِ الحَدِيثَةِ،
فَلَيْسُوا مَعْنِيِّينَ بِما سَمِعْتُم مِن الآياتِ والأحاديثِ، لأن عِلْمَهُم
مُخْتَصٌّ بِأَمْرِ الدنيا، ومُقَيَّدٌ بِما تَخَصَّصُوا بِه فَقَط، فَيُقالُ:
عالِمُ طِبٍّ، وعالِمُ فَلَكٍ، وعالِمُ كَذا.
وَأَمَّا
العُلَماءُ الذين يَسْتَحِقُّونَ هذا اللَّقَبَ عَلَى وَجْهِ الإِطْلاقِ،
هُمْ الذين قال فِيهِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ
العُلَماءَ وَرَثَةُ الأنبياء ) أَيْ الذين تَعَلَّمُوا ما أُنْزِل عَلى الأنبياء،
وعَمِلُوا بِه ودَعَوا الناسَ إليه. ولا يَعْنِي ذلك التَّهْوِينَ مِنْ تَعَلُّمِ
أُمُورِ الدنيا، بَلْ إِنَّ تَعَلُّمَ ما يَحْتاجُهُ
الْمُسْلِمُونَ مِن العُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالعَصْرِيَّةِ وأنواعِ الْمُخْتَرَعاتِ،
وكذلك تَعَلُّمَ الصناعاتِ التي فيها نَفْعٌ للمسلمين في أَمْرِ دِينِهِم ودُنياهُم
مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَيُؤْجَرُ عَلَيْها الْمُسلِمُ، إذا صَلَحَتْ
النِّيَّةُ. وإنَّما الْمَذْمُومُ أَنْ
تَكُونَ الدنيا وما يَتَعَلَّقُ بِها هِيَ مَبْلَغَ عِلْمِ الإنسانِ وغايَةَ
مَطْلُوبِة، مَعَ الغَفْلَةِ عَن الأَمْرِ الذي خُلِقَ مِن أَجْلِه كما هِيَ حالُ
الكُفَّارِ الذين قال اللهُ فيهم: ( يَعْلَمُونَ
ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ).
وَمِمَّا
يَدُلُّ على فَضْلِ العُلَماءِ العامِلِين: أَنَّهُم يَعْبُدُونَ اللهَ على
بَصِيرَةٍ بِخِلافِ غَيْرِهِم مِن الناس.
ومِمَّا وَرَدَ
في فَضْلِ العُلَماءِ: قَوْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ( فَضْلُ العالِمِ على العابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْناكُم
)، وفي حَديثٍ آخَر: ( كَفَضْلِ القَمَرِ على سائِرِ
الكَوَاكِب ).
ومِمَّا وَرَدَ في فَضْلِ العُلَماء:
أَنَّ وُجُودَهُم أَمانٌ لِأهْلِ الأَرْضِ مِن الضَّلالِ كما وَرَدَ في الحديث.
الفائِدَةُ
الثانِيَةُ في هذا الحديث: أَنَّ مِنْ
أَعْظَمِ الْمَصائِبِ التي تُصِيبُ الأُمَّةَ وتَدْهَمُها مَوْتَ العُلَماء،
فَإِنَّه بِذَهابِهِم يَذْهَبُ العِلْمُ.
الفائِدَةُ
الثالثَةُ في هذا الحديث: ذَمُّ الفَتْوَى
بِالرَّأْي، لِقَوْلِهِ فِي الحديثِ: ( فَيُفْتُونَ
بِرَأْيِهِم )، قال عمرُ رضي اللهُ عنه: " إِنَّ
أصحابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَّةِ، أَعْيَتْهُم أَنْ يَحْفَظُوها وَثَقُلَت
مِنْهُم أَنْ يَعُوها واسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا لا نَعْلَمْ،
فَعارَضُوا السُّنَّةَ بِرَأْيِهِم، فَإِيَّاكُم وإيَّاهُم ".
الفائدةُ
الرابعة: تَحْريمُ تَرْئِيسِ الجَهَلَةِ
وتَمْكِينِهِم عَلَى أُمُورِ المسلمين، وخُصُوصًا ما يَتَعَلَّقُ
بِدِينِهِم.
وَأَنْتُمْ يا عِبادَ اللهِ إِيَّاكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَلَسَ يُجْلَسُ إِلَيهِ،
قال ابنُ سِيرِينَ: ( إِنَّ هذا العِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ
دِينَكُمْ ).
الفائدةُ
الخامسةُ: تَحْرِيمُ الفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْم،
فإنَّ الفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَبِيرَةٌ مِن الكَبائِر، بَل هِيَ قَرِينَةُ
الشِّرْكِ بِاللهِ، قال تعالى: ( وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ الله: الفائدةُ السادسةُ في هذا الحديث: الحَثُّ على طَلَبِ العِلْمِ، فإنَّ في الحديثِ
بُشْرَى، أَلا وَهِي أَنَّ العِلْمَ لا يُنْتَزَعُ مِن الصُّدُور لِمَنْ تَعَلَّمَ
واجْتَهْدَ وأَخْلَصَ نِيَّتَه، فَيَنْبَغِي لِلشبابِ الحِرْصُ عَلَى طَلَبِ
العِلْمِ الشَّرْعِي، فَإِنَّ الشبابَ يُرْجَى مِنْهُم ما لا يُرْجَى مِن
غَيْرِهِم، فَعَلَيْهِم أَنْ يَهْتَمُّوا بِالعِلْمِ الشرعِيِّ الْمُسْتَقَى مِن
كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وما كان عَلَيْهِ الصحابَةُ،
والعَمَلِ بِهِ ونَشْرِهِ بَيْنَ الناسِ بالحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَة.
الفائدةُ
السابعة: أَنَّه لا يُسْتَغْنَى بالكُتُبِ
والوَسائِلِ العَصْرِيَّةِ عَن العُلَماء، بَلْ إنَّ الاسْتِغْناءَ
بالكُتُبِ والوسائِلِ عن العُلَماءِ، سَبَبٌ للاخْتِلافِ واضطرابِ الأحوالِ
وتَرَؤُّسِ الجُهَّالِ وكَثْرَةِ الْمُتعالِمِين، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه
وسلم، بَيَّنَ أَنَّ العِلْمَ يُقْبَضُ بِقَبْضِ العُلَماءِ، لا بِقَبْضِ الكُتُبِ
وَما شابَهَها، وأَنَّ مَوْتَ العُلَماءِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الناسِ في الضَّلَالِ،
حَتَّى لَوْ كانت الكُتُبُ والوَسائِلُ ومُحَرِّكاتُ البَحْثِ مَوْجُودَةً، فإنَّ
الفائِدَةَ مِنْها وَحْدَها دُونَ الرُّجُوعِ إلى أهْلِ العِلْمِ قَلِيلَةٌ
جِدًّا.
اللهم
عَلِّمنا مَا يَنفعُنا، وانفعْنا بما عَلَّمْتَنا، وفَقّهِنَا في دِينك يَا ذا
الجلالِ والإِكرام، اللهُمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدِيْ لِأَحْسَنِها إلا
أنت، واصرْفْ عنَّا سَيِّئَها لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلا أنت يا ذا الجلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ أصلحْ لنا دينَنَا الذي هو عِصْمَةُ أمرِنا وأصلحْ لنا
دُنْيانَا التي فيها مَعَاشُنا وأصلِحْ لنا آخِرَتَنا التي فيها مَعَادُنا، واجعل
الدنيا زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ والْموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ، اللهُمَّ
احفظْنا بالإسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإسلامِ قاعدِين واحفظْنا بالإسلامِ راقدِين
ولا تُشْمِتْ بنا أعداءَ ولا حاسدينَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمينَ، اللهُمَّ
أصلحْ أحوالَ المسلمينَ حُكَّامَاً ومحكومين، اللهُمَّ ألِّفْ بين قلوبِ المؤمنين
وأصلحْ ذاتَ بينِهم واهدِهم سُبُلَ السلامِ وأخرجْهم من الظلماتِ إلى النورِ يا ذا
الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ المعتدين ، اللهُمَّ
وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك، واجْعَلُهم مِن أنصارِ دينِك،
وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|