الضَّماناتُ الرَّبَّانِيَّةُ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ
الله: اتقُوا اللهَ تعالَى، وَأَيْقِنُوا بِصِدْقِ وَعْدِ اللهِ، وكُونُوا
وَاثِقِينَ بِرَبِّكُمْ، فَإِنَّ الثِّقَةَ بِاللهِ مِنْ عَلاماتِ كَمالِ التَّوْحِدِ،
ومِنْ أَجَلِّ العِباداتِ القَلْبِيَّةِ، فَهِيَ تَفْتَحُ بابَ الرِّضَا
والتَوَكُّلِ واليَقِينِ. وَمِنْ الثِّقَةِ بِاللهِ:
حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ، قالَ اللهُ تعالَى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: ( أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ
). وَيَدْخُلُ في ذلكَ: الثِّقَةُ بِالضَمَانَاتِ
الرَّبَّانِيَّةِ، والسَّعْيُ لِلْفَوْزِ بِها، لِأَنَّ حُسْنَ
الظَّنِّ بِاللهِ لا يَتَحَقَّقُ إلا بِبَذْلِ الأَسْبابِ.
والضَّماناتُ الرَّبَّانِيَّةُ كَثِيرَةٌ،
نَذْكُرُ مِنْها ما وَرَدَ في ثَلاثَةِ أَحادِيثَ، عَلَى سَبِيلِ الْمِثالِ لا
الحَصْرِ، لِأَنَّها جَمَعَتْ بَيْنَ ثَوَابـَيْ الدُّنْيا والآخِرَةِ.
الحَدِيثُ
الأَوَّلُ: قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وَسَلَّمَ: ( ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ
وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ
أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ). فَهَؤُلَاءِ بَشَّرَهُمْ النَّبيُّ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالجَزاءِ والثَّوابِ والعِيشَةِ الْمَرْضِيَّةِ،
في حَياتِهِمْ وَبَعْدَ مَماتِهِمْ.
فالأَوَّلُ:
هُوَ الْمُجاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ، إِنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وإِنْ
عاشَ فَلَهُ أَجْرُ الجِهادِ وَغَنِيمَةُ النَّصْرِ.
والثانِي:
رَجُلٌ راحَ إلى الْمَسْجِدِ قاصِدًا وَجْهَ اللهِ، لِأَنَّ صَلاةَ
الفَرِيضَةِ مَطْلُوبَةٌ مِن العَبْدِ في جَماعَةٍ في الْمَسْجِدِ، فَهَذا
الرَّجُلُ إِنْ ماتَ فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ عاشَ
فَإِنَّ الْمُحافَظَةَ عَلَى الصَّلاةِ في الْمَسْجِدِ سَبَبٌ لِرِزْقهِ
وَكِفايَتِهِ.
والثالِثُ:
رَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ، والْمُرادُ
بِالسَّلامِ في الحَدِيثِ أَمْرانِ: أَحَدُهُما:
أَنَّه إذا دَخَلَ بَيْتَه سَلَّمَ عَلَى أَهْلِه وَوَلَدِهِ، وَلا يَكْتَفِي
بِقَوْلِ: كَيْفَ حالُكُمْ أَوْ كَيْفَ أَمْسَيْتُمْ، وَما شابَهَ ذلك. والثانِي: أَنَّه يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ
وَيَعُودُ إلَيْهِ وَهُوَ سالِمٌ مِن الفِتَنِ وَالذُّنُوبِ، ومَظالِمِ العِبادِ،
وَغِيبَتِهِمْ وأَكْلِ الحَرامِ، فَإنَّ السَّلامَةَ لا يَعْدِلُها شَيْءٌ.
الحَدِيثُ
الثانِي: قَوْلُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: ( إنَّكَ لَنْ تدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ،
إلَّا أعْطاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ )، وفِي لَفْظٍ: ( إلَّا أَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْه ). وَهذا الحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ قاعِدَةً عَظِيمَةً في
الحَثِّ عَلى فِعْلِ الخَيْرِ، وتَرْكِ الحَرامِ حَتَّى لَوْ كانَ الإِنْسانُ
بِحاجَةٍ مُلِحَّةٍ إِلَيْهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الناسِ قَدْ يُهْمِلُ الطاعَةَ أَوْ
يُقَصِّرُ في واجِبٍ مِن الواجِباتِ، خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ بَعْضِ فُرَصِ
الدُّنْيا، كَمَنْ يَلْهُو في تِجارَتِهِ عَن صَلاةِ الجَماعَةِ. وَكَمَنْ
يَنْشَغِلُ بِما يُلْهِيهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيا، عَنْ قِراءَةِ القُرْآنِ، أَوْ
بِرِّ والِدَيْهِ وَصِلَةِ رَحِمِهِ. وَقَدْ يَتَساهَلُ في الكَسْبِ الحَرامِ
بِحُجَّةِ أَنَّه لَمْ يَجِدْ وَظِيفَةً، وَما شابَهَ ذلكَ. فَيُقالُ لَهُ:
تَذَكَّر هذا الحَدِيثَ، وَكُنْ واثِقًا باللهِ، وَسَتَرَى ما تَقَرُّ بِهِ
عَيْنُكَ، في الدُّنْيا والآخِرَةِ، لِأَنَّ الضَّمانَ جاءَكَ مِن اللهِ.
بَلْ إِنَّ هذا الحَدِيثَ يُشَجِّعُ مَنْ
ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ وَصَعُبَ عَلَيْهِ تَرْكُها، أَنْ يَتْرُكها، فَإنَّ
كثِيرًا مِن العُصاةِ يَفُوتُهُمْ حَسْنُ النِّيَّةِ عِنْدَ تَرْكِ الْمَعاصِي
التي ابتُلُوا بِها، إمَّا لِاعْتِباراتٍ صِحِّيَّةٍ أَوْ اجْتِماعِيَّةٍ، أَوْ
غَيْرِ ذلكَ، فَلَا يَجِدُونَ التَّوفِيقَ والإِعانَةَ عِنْدَ تَرْكِها.
فَمَنْ ابْتُلِيَ بِالْمُسْكِرِ أَو الْمُخَدِّراتِ،
أَوْ التَّدْخِينِ، فَلْيَتْرُكْ ذلكَ لِأَنَّ اللهَ حَرَّمَهُ، ولِأَنَّ اللهَ
يُبْغِضُهُ، وَأَنْ يَبْتَغِي بِذلكَ رِضا اللهِ، وأَنْ يَكُونَ واثِقًا بِاللهِ
عِنْدَ تَرْكِها، لا مُجَرِّبًا. وَسَيَجِدُ بِإذْنِ اللهِ التَّوفِيقَ
والإِعانَةَ مِن اللهِ.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ
الله: الحديثُ الثالِثُ: قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عَليه وسلم:
( ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما
أمَرَهُ اللَّهُ: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، اللَّهُمَّ
أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ في
مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ له خَيْرًا منها ).
فَمَا أَعْظَمَ هذا الضَّمانَ! فَإنَّ
النبيَّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَدِّدْ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ
مَصائِبِ الدُّنْيا، وِلِذلِكَ جاءَ ذِكْرُ الْمُصِيبَةِ مُنَكَّرًا، لِيَعُمَّ
كُلَّ مُصِيبَةٍ مِنْ مَصائِبِ الدُّنْيا.
فَمَنْ فَقَدَ وَلَدَه أَوْ والِدَه أَوْ
زَوْجَه، أَو خَسِرَ في تِجارَةٍ، أَوْ فُصِلَ مِنْ وَظِيفَةٍ، أَوْ حَصَلَ لَهُ
حادِثُ سَيْرٍ، أَوْ أصابَ زَرْعَه آفَةٌ، أَوْ احْتَرَقَ شَيْءٌ مِنْ مُلْكِهِ،
أَوْ فَقَدَ شَيْئًا مِنْ أَعْضائِهِ أَوْ حَواسِّهِ. أَوْ غَيْرَ ذلكَ مِن
مَصائِبِ الدُّنْيا، فَلْيَصْبِرْ وَلْيَحْتَسِبْ وَلْيَقُلْ هذا الدُّعاءَ، وَلْيُبْشِرْ بِأَمْرَيْنِ:
الأَوَّلُ:
الأَجْرُ مِن اللهِ.
والثانِي:
أَنْ يُعَوِّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِمَّا فَقَدْ.
اللهُمَّ
اجْعَلْنَا مِمَّنْ إذا أُنْعِمَ عَلَيْهِ شَكَرْ، وإذا ابْتُلِي صَبَرَ، وإذا
أَذْنَبَ تابَ واسْتَغْفَرَ، اللهم عَلِّمنا مَا يَنفعُنا، وانفعْنا بما
عَلَّمْتَنا، وفَقّهِنَا في دِينك يَا ذا الجلالِ والإِكرام، اللَّهُمَّ استعملنا
في طاعتِك، وثَبِّتْنا على دينِك، وارزقْنَا الإخلاصَ في أقوالِنا وأعمالِنا،
وخَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك وتوفَّنَا مسلِمِين
وألْحِقْنا بالصالحينَ، اللهُمَّ احفظْنا بالإسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإسلامِ
قاعدِين واحفظْنا بالإسلامِ راقدِين ولا تُشْمِتْ بنا أعداءَ ولا حاسدينَ، اللهُمَّ
أصلحْ أحوالَ المسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين، اللهُمَّ أنزلْ على المسلمينَ رحمةً
عامَّةً وهدايةً عامَّةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمين
على كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهُمَّ اجعلْ
كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهُم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً على مَنْ
سِواهُم، ولا تجعلْ لأعدائِهم مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ احفظْ
بلادَنا مِمَّنْ يكيدُ لها، وأَعِذْهَا من شرِّ الأشرارِ وكَيْدِ الفُجَّارِ، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك،
واجعلهم من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمينَ
والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ
مجيبُ الدَّعَواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|