أسبابُ عذابِ القبرِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الْمُسلِمون: اتقُوا اللهَ تعالى،
وأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ، واعْلَمُوا أَنَّ القَبْرَ
أَوَّلُ مَنازِلِ الآخِرَةِ، فَلَا تَغْفَلُوا عَنْ ذلك، وَلَا تُلْهِيَنَّكُم
الدُّنْيا.
قالَ
البَرَاءُ بْنُ عازِبٍ رضي اللهُ عَنْه: كُنَّا مَعَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه
وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَوَقَفَ عَلَى شَفِيرِ القَبْرِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ
الثَّرَى، ثُمَّ قال: ( يَا إِخْوانِي، لِمِثْلِ هذا
فَأَعِدُّوا ). وَقالَ أيْضًا: ( القَبْرُ
أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ،
وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْه فَمَا بَعَدَه أَشَدُّ مِنْهُ ). وَقالَ أيْضًا:
( مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا والقَبْرُ
أَفْظَعُ مِنْهُ ).
فَالقَبْرُ
يَا عِبادَ اللهِ أَوَّلُ مَنازِلِ الآخِرَةِ، أَوَّلُ مَنْزِلٍ تَدْخُلُه بَعْدَ
مَوْتِكَ، إمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، وإِمَّا حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ
النارِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إِذَا
وُضِعَت الجَنَازَةُ، فَاحْتَمَلَها الرِّجَالُ عَلَى أَعْناقِهِمْ، فَإِنْ كانَت
صالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كانَت غَيْرَ صالِحَةٍ قالَتْ لِأَهْلِها:
يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَها كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا
الإنْسانُ، وَلَوْ سَمِعَها الإنسانُ لَصَعِقَ ). يُسأَلُ فِيهِ كُلُّ
مَقْبُورٍ سَوَاءً كانَ كافِرًا أوْ مُسْلِمًا، عَنْ التوحيدِ والسُّنَّةِ
والعَمَلِ بِالإسلامِ. - مَنْ رَبُّكَ؟ مَنْ نَبِيُّكَ؟ ما دِينُكَ؟ - فَاْجْعَلْ
حَيَاتَكَ أَيُّها الْمُسلمُ كُلَّها فِي تَحْقِيقِ هذِه الأُصُولِ الثَّلَاثَةِ،
فَإِنَّ مَرَدَّكَ فِي القَبْرِ إلَى السُّؤَالِ عَنْها. وَاعْلَمْ أَنَّه لَيْسَ
كُلُّ مَقْبُورٍ يَسْتَطِيعُ الجَوابَ، وَإِنَّمَا الذي يُجِيبُ مَنْ كانَ
مُؤْمِنًا بِهذِهِ الأُصُولِ وَعَامِلًا بِمُقْتَضاها، وَأَمَّا غَيْرُهُ، فَيَطِيشُ عَقْلُهُ وَيَنْسَى كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَثْبُتُ
إِلَّا مَنْ ثَبَّتَه اللهُ. فَإِنْ أَجَابَ عَلَى السُّؤَالِ: فُتِح لَهُ بابٌ
إلى النارِ، فَيُقالُ: هذا مَكانُكَ لَوْ عَصَيْتَ اللهَ، ثُمَّ يُغْلَقُ عَنْه
هذا البابُ، كَيْ يَزْدَادَ فَرَحًا وَشُكْرًا، وَيَعْرِفَ قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ
عَلَيْه. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إلى الجَنَّةِ فَيَأْتِيهِ مِنْ رِيحِها
وَطِيبِها، فَيُقالُ هذا مَكَانُكَ إِذْ أَطَعْتَ اللهَ، فَيُفْرَشُ لَهُ مِن
الجَنَّةِ وَيُفْسَحُ القَبْرُ مَدَّ البَصَرِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ
الوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيابِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالذِي يَسُرُّكَ، هَذَا
يَوْمُكَ الذي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَه: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الوَجْهُ
الذي يَجِيءُ بِالخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ
أَقِمِ الساعةَ، رَبِّ أَقِمِ الساعةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إلى أَهْلِي وَمَالِي. وَأَمَّا مَنْ ضَلَّ عَنْ الجَوَابِ فَيَقُولُ: هاه،
هاه، لَا أَدْرِى، فَيُنَادِي مُنادٍ مِن السماءِ: أَنْ كَذَبَ عَبْدِي،
فَأَفْرِشُوهُ مِن النارِ، وَافْتَحُوا لَه بابًا إلى النارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ
حَرِّها وَسَمُومِها، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ
أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الوَجْهِ، قَبِيحُ الثيابِ، مُنْتِنُ
الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالذِي يَسُوؤُكَ، هذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ
تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنتَ؟ فَوَجْهُكَ الوَجْهُ يَجِئُ بِالشَّرِّ،
فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لا تُقِمِ الساعَةَ.
أيُّها الْمُسلِمُون: عَذابُ القَبْرِ حَقٌّ، وَأَوَّلُ أسبابِهِ هُوَ
الكُفْرُ بِاللهِ، وَهُناكَ أَسْبابٌ ذُكِرَتْ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ، يَجِبُ
عَلَى الْمسلمِ أَنْ يَعْرِفَها وَيَحْذَرَها لِأَنَّه قَدْ يُعَذَّبُ بِها
الشَّخْصُ وَلَوْ كانَ مُسْلِمًا، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْه:
أَوَّلُها: النَّمِيمَةُ،
وَكَذلِكَ عَدَمُ التَّنَزُّهِ مِنْ البَوْلِ،
فَإِنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرَيْنِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا
يُعَذَّبانِ، وَقالَ: أَمَّا أَحَدُهُما فَكانَ
يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ،
أيْ: لَا يَحْمِي بَدَنَهُ مِنْ رَشاشِ البَوْلِ أثْناءَ قَضَاءِ الحاجَةِ.
وَمِنْ
الأسْبابِ أَيْضًا: الكَذِبُ،
وَهَجْرُ القُرْآنِ لِمَنْ عَلَّمَه اللهُ إيَّاه، والنَّوْمُ عَنْ الصلاةِ الْمَكْتُوبَةِ،
والزِّنا وَأَكْلُ الرِّبا، فَقَدْ ذُكِرَ هَؤُلاءِ فِي حَدِيثٍ واحِدٍ
وَأَخْبَرَ
النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم، أَنَّ الذي يَكْذِبُ
الكِذْبَةَ فَتَبْلُغُ الآفَاقَ، يُدْخَلُ فِي
شِدْقِهِ كُلُوبٌ مِنْ حَدِيدٍ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يُفْعَلُ
بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذلك، إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وَأَمَّا مَنْ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ فَنَامَ عَنْه وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَنَامَ عَن الصلاةِ
الْمَكْتُوبَةِ، فَيَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَنْ يَشْدَخُهُ بِحَجَرٍ إِلَى يَوْمِ
القِيَامَةِ. وَأَمَّا الزُّناةُ وَالزَّوَانِي،
فَيُوضَعُونَ فِي مِثْلِ التَّنُّورِ، أَسْفَلُهُ
وَاسِعٌ وَأَعْلَاهُ ضَيِّقٌ، وَفِي أَسْفَلِهِ نارٌ، كُلَّمَا اقْتَرَبَتْ
ارْتَفَعُوا وَكادُوا يَخْرُجُونَ، فَإِذا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيها، فَهُمْ عَلَى
ذلك إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. وَأَمَّا آكِلُ
الرِّبَا فَيُجْعَلُ فِي نَهْرٍ مِنْ دَمٍ،
وَعَلَى حافَّةِ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجارَةٌ، فَإِذا أَرَادَ الذي
فِي النَّهْرِ الخُرُوجَ أَلْقَمَهُ الرَّجُلُ حِجارَةً فَرَدَّه حَيْثُ كانَ،
فَهُوَ عَلَى ذلك إلَى يَوْمِ القِيامَةِ، نَعُوذُ بِاللهِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الحمدُ
للهِ على إحسَانِهِ، والشكرُ له على توفِيقِهِ وامتنَانِهِ، وَأَشهدُ أنْ لا إله
إلا اللهُ وحْدَه لا شريكَ لَه، وأشهدُ أنَّ محمداً عَبْدُه ورسولُه، صلى اللهُ
عَلَيْه وعلى آلِه وأصحابِه وسِلَّم تَسْلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ:
تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ
وَفِتْنَتِهِ، وابْذُلُوا أسبابَ السلامَةِ مِنْ ذلك، وَاسْأَلُوا اللهَ
الثَّبَاتَ بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ، وَلَا
تَنْسَوْا أَنْ تَسْتَعِيذُوا بِاللهِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةِ مِنْ الأَرْبَعِ التي
أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِالإِسْتِعاذَةِ مِنْها، بِقَوْلِه: (
إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الآخِرِ
فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عذابِ
القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ
الدَّجَّالِ ).
اللَّهُمَّ
ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ،
اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذابِ القَبْرِ، وَمِنْ
فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللهُمَّ
خَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك، وتوفَّنا مسلمين
وألحقنا بالصالحين، اللهُمَّ أصلحْ قلوبنَا وأعمالَنا وأحوالَنا، اللهُمَّ أصلحْ
أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ أنزلْ على المسلمين رحمةً عامَّةً وهدايةً عامَّةً يا
ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمينَ على كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك
محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهم اجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً
واجعلْهم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً على من سواهم ، ولا تجعلْ لأعدائهم منَّةً
عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ
المعتدين ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مما يكيدُ لها، وانصرها على أعدائِها في
داخِلِها وخارجِها، اللهُمَّ احفظْ لهذه البلادِ دينَها وعقيدتَها وأمنَها
وعِزَّتَها وسيادتَها، اللهُمَّ أصلحْ أهلَها وحكَّامَها واجمعْ كلمتَهم وألِّفْ
بين قلوبِهم واجعلْهم يداً واحدةً على من عداهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ اغفرْ
للمسلمين والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ
قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، اللهُمَّ صلِّ وسَلِّمْ على نبيِّنا محمَّدٍ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|