إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا
والتَّحْذِيرُ مِن الرَّشْوَةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، واسْتَغْنُوا بِالحَلَالِ
عَنْ الحَرامِ، وَعَلَيْكُمْ بِالقَنَاعَةِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ النبيِّ صلى
اللهُ عليه وسلم: ( إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا
يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ
الْمُرْسَلِينَ فَقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا
صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
} وَقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ } ثُمَّ
ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى
السَّماءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرامٌ،
وَمَلْبَسُهُ حَرامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرامِ، فَأَنَّى يُسْتَجابُ لِذلكَ ).
فَهَذا الحَدِيثُ العَظِيمُ:
دَلَّ عَلى أنَّ الطَّيِّبَ مِنْ أَسْماءِ اللهِ الحُسْنَى، وأَنَّه سُبْحانَهُ
طَيِّبٌ في ذاتِهِ وأَسْمائِهِ وَصِفاتِهِ، وَمُنَزَّهٌ عَنْ الشِّرِيكِ والْمَثِيلِ،
وَعَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ.
وَيَدُلُّ أَيْضًا:
عَلَى أَنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ مِن الأَشْخاصِ إلَّا الطَّيِّبِينَ، وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ
الْمُتَّقُونَ. وَلَا يَقْبَلُ مِن الكَلامِ إلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ مِن
العَمَلِ إلَّا الطَّيِّبَ، وَهُوَ الخالِصُ للهِ، والْمَوافِقُ لِسُنَّةِ
رَسُولِهِ صلى اللهُ عَلَيه وسلم. ولَا يَقْبَلُ مِن الصَّدَقَةِ إلَّا ما كانَ
مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ.
وَيَدُلُّ الحَدِيثُ أَيْضًا:
عَلى وُجُوبِ الأَكْلِ مِن الطَّيِّباتِ، والاسْتِعانَةِ بِها عَلى العَمَلِ
الصالِحِ. وَعَلى خَطَرِ الرِّزْقِ الحَرامِ، وَأَنَّه مِنْ مَوانِعِ قَبُولِ الدُّعاءِ.
أَيُّها المسلمون: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ الْمَكاسِبِ شَرًّا
وخُبْثًا: الرَّشْوَةَ. قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرِوٍ بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم الرَّاشِي
وَالْمُرْتَشِيَ ). واللَّعْنُ: هُوَ
الطَّرْدُ والإِبْعادُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ. وهذا دُعاءٌ مِن النبيِّ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلم، عَلَى الرَّاشِي والْمُرْتَشِي، أَنْ يُطْرَدَا وَيُبْعَدَا عَنْ
رَحْمَةِ اللهِ.
وَالرَّاشِي: هُوَ مُعْطِي الْمالَ
أَوْ الْمَنْفَعَةَ. والمُرْتَشِي: آخِذُها.
وَالرَّشْوَةُ: ما يَدْفَعُهُ
الرَّاشِي لِلْمُرْتَشِي، لِيَتَوصَّلَ بِهِ إلى باطِلٍ أَوْ مُحَرَّمٍ. أَوْ
الحُصُولِ عَلى مَصْلَحَةٍ.
وَمِثالُ التَّوَصُّلِ إلى بَاطِلٍ أَوْ مُحَرَّمٍ: أَنْ يَدْفَعَ شَيْئًا إلى قاضٍ أَوْ مُحَقِّقٍ أَوْ مَسْؤُولٍ،
مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغَيِّرَ حُكْمَه، أَوْ يُبَدِّلَ قَرارَه، أَوْ مِنْ أَجْلِ
إسْقاطِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِلحُصُولِ عَلى أَمْرٍ لا يَسْتَحِقُّه،
كَوَظِيفَةٍ لا يَسْتَحِقُّها، أَوْ شَهادَةٍ لا يَسْتَحِقُّها.
ومِثالُ الحُصُولِ عَلَى مَصْلَحَةٍ: كَأَنْ يَدْفَعَ مالًا أَوْ مَنْفَعَةً، لِمَسْؤُولٍ أَوْ مُوَظَّفٍ،
لِيَحْصُلَ عَلى وَظِيفَةٍ، أَوْ قَبُولٍ في جامِعَةٍ، أَوْ مِنْحَةِ أَرْضٍ، وما
شابَهَ ذلكَ. فَإنَّ هذه مُحَرَّمَةٌ، مَعَ العِلْمِ، أَنَّه لَمْ يَقْصِدْ
الإِضْرارَ بِأَحَدٍ، أَوْ الوُصُولَ إلى حَرامٍ. لَكِنَّه تَسَبَّبَ في إِفْسادِ
المَوَظَّفِ أَوْ الْمَسْؤُولِ، لِأَنَّه يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْمُوَظَّفِ،
مِمَّا يَجْعَلهُ يُقَدِّمُهُ عَلى الآخَرِينَ، وَيَخُصُّهُ مِنْ بَيْنِ الْمُراجِعِينَ
والْمُتَقَدِّمِينَ بِمَزِيدٍ مِن الخِدْمَةِ والعِنايَةِ. وَهَذا مِن وَسائِل
إِفْسادِ الْمَوَظَّفِينَ والْمَسْؤُولِينَ، لِأَنَّه يَفتَحُ لَهُمْ بابَ شَرٍّ،
ألَا وَهُوَ تَعْطِيلُ مَصالِحِ الْمُسلِمِينَ، أوْ عَدَمُ إنْجازِ مُعامَلاتِهِمْ
إلا إذا دَفَعُوا لَهُمْ شَيْئًا.
ومِنْ أَخْطَرِ أُمُورِ الرَّشْوَةِ: أَنْ تُدْفَعَ لِمُوَظَّفٍ كَيْ يُمَرِّرَ مَشْرُوعًا مِنْ الْمَشارِيعِ،
قَبْلَ أَنْ تَنْطَبِقَ عَلَيْهِ الْمُواصَفاتُ والْمَقايِيسُ الْمَطْلُوبَةُ،
فَيَتَجاهَلُ أَخْطاءَهُ وَنَقْصَهُ وَخَطَرَهُ عَلَى الأَمَّةِ. وَهذا والعِياذُ
بِاللهِ جَمْعٌ بَيْنَ الرَّشْوَةِ والخِيانَةِ وإلْحاقِ الضَّرَرِ بِالْمسلمينَ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا
إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عِبادَ اللهِ: يَجِبُ
عَلى الْمَوَظَّفِ والْمَسْؤُولِ، أَنْ يَكَونَ عَفِيفًا عَزِيزَ النَّفْسِ
غَنِيَّ الْقَلْبِ، بَعِيدًا عَنْ أَكْلِ الحَرامِ، وإنَّ مِن العِفَّةِ
والنَّزاهَةِ، أَنْ لا يَقْبَلَ هَدِيَّةً مِن الْمُراجِعِينَ والأَشْخاصِ الذين
لَهُمْ مُعامَلاتٌ عِنْدَه، فَإنَّ ذلك مِن الغُلُولِ الْمُحَرَّمِ، قال أَبُو
حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي اللهُ عَنْه: اسْتَعْمَلَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم
ابْنَ اللُّتْبِيَّةَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ بِالْمالِ، فَدَفَعَه إلى
النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، فقال: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ
أُهْدِيَتْ لِي، فَقامَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ
اللهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: ( مَا
بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي! أَفَلَا
قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى
إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بَيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ
شَيْئًا، إلَّا جاءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ ).
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ
اللهِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ النبيِّ صلى اللهُ عَليه وَسَلَّم: ( إِنَّ أَوَّلَ ما يُنْتِنُ من الإنْسانِ بَطْنُه، فَمَنْ اسْتَطاعَ
أَنْ لا يَأْكُلَ إلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ ).
اللهُمَّ
اكْفِنا بِحلالِكَ عَنْ حَرامِكَ، وأَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ، اللهُمَّ
حبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيِّنْه في قلوبِنا وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ
والعصيانَ واجعلنا من الراشدين، اللهُمَّ خَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في
الحلالِ من رزقِك، وتوفَّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهُمَّ أصلحْ قلوبنَا
وأعمالَنا وأحوالَنا، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ أنزلْ على
المسلمين رحمةً عامَّةً وهدايةً عامَّةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ
كلمةَ المسلمينَ على كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ،
اللهم اجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً
على من سواهم ، ولا تجعلْ لأعدائهم منَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ
احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ المعتدين ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مما
يكيدُ لها، وانصرها على أعدائِها في داخِلِها وخارجِها، اللهُمَّ احفظْ لهذه
البلادِ دينَها وعقيدتَها وأمنَها وعِزَّتَها وسيادتَها، اللهُمَّ أصلحْ أهلَها
وحكَّامَها واجمعْ كلمتَهم وألِّفْ بين قلوبِهم واجعلْهم يداً واحدةً على من عداهم
يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ
الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، اللهُمَّ صلِّ وسَلِّمْ
على نبيِّنا محمَّدٍ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|