وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى, واذكروا نِعمةَ اللهِ علَيكُم. واعلمُوا أَنَّ نِعَمَ اللهِ لا تُحْصَى, كما قال تعالى: ( وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). أَيْ أَنَّكُم لَو اشْتَغَلْتُم بِتَعْدادِ نِعَمِ اللهِ, تَعْدادًا مُجَرَّداً مِن الشُّكْر, بِحَيثُ أَنَّكُم تَتَوَقَّفون عَن أعمالِكم كُلِّها, وتَشْتَغِلُون فقط بِتَعْدادِ نِعَمِ الله, فَإنكُم لا تَستطيعون إِحصاءَها, فَكيفَ ستُقابلونَ هذه النعمَ بالشُّكْرِ أَيُّها العبادُ الضُّعَفاء؟. مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ العبادَ لو كُلِّفَوا بُمُقابلةِ جَميعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِم بالشُّكْرِ لَهَلَكوا. ولَكنَّ اللهَ سُبحانَه رؤوفٌ رحيمٌ لَطيفٌ بِعِبادِه, غَفورٌ لَهُم, حليمٌ عليهِم. ولذلك خَتَمَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ الكريمةَ بِقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). أَيْ أَنَّه سبحانَه لَمْ يُطالِبْكُم بِمقابلةِ جَميعِ هذه النِّعمِ, وإنَّما يَرْضَى مِنْكُم الشكرَ اليسيرَ, في مُقَابِلِ الإنعامِ الكثير. والأدلةُ على ذلك كثيرةٌ في الكتابِ والسُّنَّة.
نَذكرُ مِنها ما رواه مُسْلِمٌ عن أبي ذَرٍّ الغِفاريٍّ رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى ). والمَقْصودُ بالسُّلامَى في الحديث: " المِفْصَلُ, أو العَظْم ", فإنَّ بَدَنَ الإنسانَ عِبارَةٌ عَن جَوارِحَ وعِظامٍ ومَفاصِلَ. يَقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّه خُلِقَ كُلُّ إنسانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ على سِتِّينَ وثَلاثِمائَةِ مِفْصَل ). وهذه المَفاصِلُ يا عبادَ الله, تَحتاجُ إلى أَنْ يُؤَدِّيَ العبادُ شُكْرَها. لأن ذلك مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ البَدَن والصِّحَّة. ومِنْ كَمالِ التَّعبُّدِ لِلّهِ والتَّذَلُّلِ لَه: أنْ يَقُومُوا بِشُكْرِ هذِه النعمة. ولكنَّ القيامَ بِذلك على الوَجْهِ الكامِلِ شاقٌّ على العبدِ, بَلْ مُسْتَحيل. لأن كُلَّ عُضْوٍ في بَدَنِك, وكُلَّ مِفْصَلٍ في بَدَنِكَ, حَياتُكَ بِدُونِه ناقِصَةٌ, بَلْ تَصْعُبُ عليكَ الحياةُ بِدُونِه. وَمِن أَجْلِ ذلكَ يَسَّرَ اللهُ على عِبادِهِ ورَضِيَ بِالعملِ اليَسِيرِ في مُقابَلَةِ نِعَمِهِ الكثيرة. فإذا سبَّحْتَ اللهَ وحَمِدْتَه, وكَبَّرْتَ وهَلَّلتَ عَدَدَ هذه المفاصِلِ السِّتِّينَ والثلاثِمائة, فقد تَصَدَّقْتَ عنها. وكذلك لَوْ قُلْتَ: سُبْحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلا الله ُواللهُ أكبر, تسعين مَرَّةً فِي يَوْم, فَقَدْ تَصَدَّقْتَ عَن مَفاصِلِك. وكَذلكَ لو نَوَّعْتَ أعْمالَك, ما بين ذِكْرٍ ونصيحةٍ وإماطَةِ أذىً وإعانةِ ضعيفٍ وإغاثَةِ مَلْهُوفٍ وغيرِ ذلك, فَبَلَغَتْ عَدَدَ هذه المفاصلِ فَقَدْ تصدَّقت عَنْها. وبإمكانِك أَنْ تَجْمَعَ ذلكَ كُلَّه في ركعتينِ تَرْكَعْهُما مِن الضُّحَى كَما وَرَدَ في الحديث. فَيَا لَهُ مِنْ تَيْسِيرٍ وسَمَاحَة, ويَا لَهُ مِن فَضْلٍ كَبيرٍ مِنَ الله, يَدُلُّ عَلَى رحمتِه الواسعةِ بعبادِه.
فَتَأّمَّل يا عَبْدَ اللهِ, وتَفَكَّرْ: لَوْ أَنَّكَ مُطالبٌ كُلَّ يومٍ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ عُضْوٍ ومِفْصَلٍ مِنْ هذه المَفاصِلِ بِالشُّكْرِ عَلَى حِدَه!!!. بَلْ إِنك لَوْ كُلِّفْتَ بالتفَرُّغِ والتَّعَبُّدِ لله مِنْ أجْلِ أداءِ شُكْرِ نِعْمَةِ عُضْوٍ واحدٍ مِن أعضائك, لَمْ تَتَمَكَّن مِنْ الوفاءِ بِذلك.
إِنَّ هذا التَّفَكُّرَ يَدْعوكَ إلى الذُّلِّ والانكِسارِ بَينَ يَدَي الله, والحياءِ مِنه, والشُّعُورِ بالتَقْصيرِ. وَيَدعُوكَ أيضاً إلى الرِّضا وَعَدَمِ التَسَخُّطِ عِنْدَ حُلُولِ المُصِيبَة, لأنه سَيَجْعَلُكَ تقول: إذا سُلِبَتْ مِنِّي نعمةٌ واحدة, فَقَد بَقِيَ لِي نِعمٌ كثيرةٌ لا تُحْصَى. ويَدْعُوكَ أيضاً إلى اجْتِنابِ مَعْصِيَةِ الله, وعدمِ استعمالِ هذِه الأعضاءِ في مَعْصِيةِ الله. هذِه الأعضاءُ التي أنْعَمَ اللهُ عليك بِها وَيَسَّرَ لَكَ طريقَ شُكْرِ نِعْمَتِها, كيف تُعَطِّلُها عن عِبادةِ الله؟!! وكيفَ تُشْغِلُها في مَعْصِيَةِ الله؟!!
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: فَقَدْ دَلَّ الحَديثُ الذي سَمِعْتُم, على فَضْلِ سُنَّةِ الضُّحَى وأهَمِّيَّتِها, فَهِيَ مِن السُّنَنِ المُؤَكَّدَةِ التي حَثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها. قال أبو هريرةَ رضي الله عنه: ( أَوْصاني خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلاثٍ لا أَدَعَهُنَّ حتى أمُوت: صَومِ ثَلاثةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرِ, وصلاةِ الضُّحَى, وَنَوْمٍ علَى وِتْر) رواه البخاريُّ ومُسلم. وروى بنُ خُزَيْمَةَ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يُحافِظُ على صلاةِ الضُّحَى إلا أَوَّاب. وقال: هِيَ صَلاةُ الأَوَّابِين ). والأوَّابُ: هو كَثيرُ التوبةِ والرُّجُوعِ إلى الله.
وَوَقْتُها: يَبْدَأُ مِنْ ارْتِفاعِ الشَّمْسِ قِيدَ رُمْح, أَيْ بَعْدَ طُلُوعِها بِعَشْرِ دَقائِق. وينتَهي إذا قامَ قائِمُ الظَّهِيرَة, أَيْ قُبَيْلَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَشْرِ دَقائِقَ تقريباً.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احفظ لبلادنا دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها ومن يتربص بها الدوائر يا قوي يا عزيز، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|