أسبابُ
العَداوةِ والبَغْضاء
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى, واعلَمُوا أن
مِن مَحاسِنِ الإسلام, الحِرْصَ على اجتِماعِ القُلُوبِ, وتَقارُبِ النُّفُوسِ,
والبُعْدِ عنِ الفُرْقَةِ والاخْتِلافِ, وَكُلِّ ما يُثِيرُ العَداوَةَ
والبَغْضاءَ بينَ المؤمنين. بَلْ إنَّ اجتِماعَ القُلُوبِ وائْتِلافَها, آيَةٌ مِن
آياتِ الله, لا تَدْخُلُ فيها قُدْرَةُ البَشَرِ, لأَنَّها مَنُوطَةٌ بِتَحَقٌّقِ
سَبَبِها الذي أَمَرَ اللهُ به, ألا وَهُوَ الاعتِصامُ بِحَبْلِه, والتَّمَسُّكُ
بِشَرْعِه, والبُعْدُ عن أسبابِ الفُرْقَةِ والعَداوَةِ والبغضاء بين المؤمنين.
ولذلك قال اللهُ تعالى لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). مما يَدُلُّ دِلالَةً واضِحَة, على أنَّ
اجتِماعَ القُلُوبِ ليس مِن قُدْرَةِ البَشَر, وإنِّما هو من عالِمِ الغَيبِ
سبحانه, الذي جَعَلَ لِسَلامَةِ القُلُوبِ مِنَ العَدَاوَةِ والبَغْضاءِ أسباباً,
لا تَتَحَقَّقُ إلا بها.
ومِن تِلْكُمُ الأسبابِ: الأَمْرُ
باجْتِنابِ الأَعْمالِ, التي تُفْسِدُ النُّفُوسَ, وتَهْدِمُ أَوَاصِرَ
المَحَبَّةِ, وتنْشُرُ البَغْضاءَ والشَّحْناءَ, وتُثِيرُ العَدَاوَةَ الضغائنَ
بين المؤمنين, وتَدْفَعُ إلى الغضبِ والانتِقام. فَحَرَّمَ الفَخْرَ بالأحسابِ
والطَّعْنَ في الأنساب, والتَمْيِيزَ بَيْنَ الناسِ مِن خلالِ ذلك, ويَدْخُلُ في
ذلك: التَّمْيِيزُ بينَهَم في اللُّغَةِ أو الَّلوْنِ أو الجِنْسِيَّة. وَحَرَّمَ
النَّميمةَ, وهي نَقْلُ الكلامِ بين الناسِ على وَجْهِ الإِفساد, بَلْ إنَّ
إِفْسادَها أَشَدُّ أنواعِ الإفسادِ, حتى قال بعضُ السَّلَفِ: " النَّمَّامُ
يُفْسِدُ في ساعةٍ ما لا يُفْسِدُ الساحِرُ في سَنَة ". وَحَرَّمَ بَيْعَ
الرَّجُلِ على بيعِ أخيه, أو شَراءَه على شِرائِه. كَمَن يَرَى شَخْصاً قد باعَ
سِلْعَةً بِمائةِ ريالٍ, فَيَأتِي إلى الْمُشْتَرِي فيقول: رُدَّها إلى صاحبِها
وأنا أبيعُكَ بِأقَل. أو يقولُ للبائع: اسْتَرْجِعْ سِلْعَتَكَ وأنا أشتريها
بِأَكْثَر. ونَهَى أيضا عن النَّجْش, وهو أنْ يَزِيدَ في السِّلْعَةِ مَنْ لا
يُرِيدُ شِراءَها, ولكن يُريدُ رَفْعَ ثَمَنِها مِنْ أَجْلِ نَفْعِ البائِعِ أَو
الزيادةِ على المُشْتَرِي. ومن ذلك: أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ على خِطْبَةِ أخيه.
ومن ذلك: تَحْرِيمُ المَيْسِرِ والْمُغالَباتِ على عِوَض, أَوْ ما يُسَمَّى بالْمُراهناتِ
بَيْنَ طَرَفَيْنِ, أَحَدُهُما غانِمٌ رابِحٌ, والآخَرُ غَارِمٌ خاسِر. وَيَكْثُرُ
في مُجْتَمَعِنا اليومَ لِعْبُ الوَرَقِ أو الكُرَةِ على عِوَضٍ بَيْنَ
المُتَبَارِين, يَدْفَعُهُ المَغْلُوبُ مِنْهُم, وقَدْ يكونُ العِوَضُ نقوداً أو
وَلِيمَةً أو غَيْرَ ذلك, وهذا مِن القِمار, فلا يَجُوزُ فِعْلُه. وكذلكَ نَهَى
النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلٍ يَراهُ الناسُ سَهْلاً وَدَاخِلاً في الْمُمَازَحَةِ
الْمُباحة, وهُوَ على خِلافِ ذلك, وذلك عِنْدَما رَأَى رجُلاً مِنَ الصّحابةِ
أَخَذَ حَبْلَ صاحِبِهِ مازِحاً, وفي نِيَّتِه أَنْ يَرُدَّه إليه, لكنَّه أرادَ
أنْ يَخْتَبِرَ صَبْرَه وحِلْمَهُ أَوْ يُمَازِحُه, فَنَهاهُ الرسولُ صلى الله
عليه وسلم, وقالَ لَه: ( رُدَّه ). وقال أيضاً: ( لا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ
مَتَاعَ أَخِيهِ لاعِباً ولا جَادًّا, وَمَنْ أَخَذَ عَصا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّها ). والسَّبَبُ في ذلك أَنَّه
قَدْ يُفْضِي إلى الْخُصُومَةِ وإلْحاقِ الأَذَى. وبَعْضُ الناسِ يَتَساهَلُ في
مِثْلِ هذه الأفعالِ والْمُمَازَحَةِ الثَّقِيلَةِ مع زملائه, فَيُخْفِي عَن
أخِيهِ مِفْتاحَ سَيَّارَتِه أو مِحْفَظَةَ نُقُودِه, أو أَوْراقاً مُهِمَّةً
مازِحاً, مَعَ أَنَّ عَوَاقِبَها سَيِّئَةٌ, لِمَا تُسَبِّبُه مِنْ ضَرَرٍ بَيْنَ
الأصحابِ قَدْ تَفْسُدُ بِسَبَبِها الأُخُوَّة.
وَحَرَّمَ أيضاً سَبَّ وُلاةِ الأَمْرِ,
وتَنَقُّصَهُم عَلانِيَةً, لأن ذلكَ يُفْضِي إلى نَشْرِ العَداواتِ والفَوضَى,
وإيغارِ الصُّدُورِ عَلَيِهِم وتَجَرُّؤِ الْجُهّالِ والعابِثِينَ ومُثيرِي
الفِتَن, قال أَنَسُ بنُ مالِكٍ رضي اللهُ عنه: نهانا كُبَراؤُنا من أصحابِ رسولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَسُبُّوا أُمَراءَكُم وَلا تَغُشُّوهُم ولا
تُبْغِضُوهُم واتَّقُوا اللهَ واصْبِرُوا فإنَّ الأَمْرَ قَريب ". وقال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أرادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطانٍ, فَلا
يُبْدِهِ عَلانِيَةً, وَلْيَأْخُذْ بِيَدِهِ, فَإِنْ سَمِعَ مِنْهُ فَذَاكَ, وإلاّ
كان أَدَّى الذي عليه ).
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ
يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ السِّمَاواتِ وَالأَرْضِِ،
جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ
فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِِّ شَيءٍ قَدِير، مَا يَفْتَحِِ اللهُ
للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد:-
عباد الله: إنَّ مِنْ أَعْظَمِ أسبابِ
العَدَواتِ والقَطيعة: عَدَمَ العَدْلِ بين الأولادِ في العَطِيَّةِ والْمُعامَلَة.
وهو ظاهِرةٌ نَفْسِيَّةٌ خَطيرةٌ في تَعْقِيدِهِم وانحِرافِهِم وتَحْوِيلِ
حياتِهِم إلى حَسَدٍ وشَقَاء, بَدَلاً مِن أن يَكُونُوا قُرَّةَ عَيْنٍ
لِوالِدَيهِم, وقُرَّةَ عَيْنٍ لِبَعْضِهِم, مُتَآلِفِينَ مُتَوادِّين
مُتَعَاضِدين. فَيَجِبُ على الوالِدَينِ أنْ يَتَّقُوا اللهَ ويَعْدِلُوا بين
أولادِهِم في جَميعِ أُمُوِر حَياتِهِم, وأن يُعِينُوهُم على أن يَكُونُوا
بَرَرَةً بِهِم, في حياتِهِم, بَلْ وحَتَّى بَعْدَ مَمَاتِهِم. لأنَّ بَعْضَ
الآباءِ قَدْ يَسْلَمُ مِن الجَورِ في الدنيا, لكنَّه بَعْدَ مَوتِه يَكُون سَبباً
لِتَفَرُّقِهِم وتَقاطُعِهِم وعَدَاوَتِهِم بَعْدَ مَوْتِه, مِن خِلالِ بَعْضِ
الوصايا أو الأوقافِ التي يَظْهَرُ مِنْها تَفْضِيلُ بَعْضِ أولادِه على بعضِ,
سواءً كانُوا ذكوراً أو إناثاً. بَلْ إنَّ بَعْضَ الأوقافِ التي يُوقِفُها الآباءُ
أو الأُمهاتُ وإن كانت مباحَةً لكنَّها قَدْ تَضُرُّ بالعلاقَةِ بين الأولاد,
فَمَثَلاً لَو أرادَ شَخْصٌ أنْ يُوقِفَ حالَ حياتِه بَيْتاً على الْمُحْتاجِ مِن
الأولاد, فإنه يَنْبَغِي له أَنْ يَنْظُرَ في حالِهِم ونَفْسِيَّاتِهِم: هَلْ
عِنْدَهُم مَعْرِفةٌ وحُسْنُ تَصَرُّفٍ وتَدْبيرٍ في الانتِفاعِ مِن هذا البَيْتِ
أو غَلَّتِه؟ كَيْ لا تَتَدَهْوَرَ العلاقَةُ بين أولادِه بِسَبَبٍ أُمُورٍ لا
يُحْسِنُون التصَرُّفَ فيها, أو بِسَبَبِ الشُّحِّ أوِ الجَشَعِ أو الحَماقَةِ
التي تَكونُ في بَعْضِهِم، فإن كانوا محل ثقة، وإلا فالعدول عن ذلك أولى.
فاتقُوا اللهَ عبادَ الله, وكونُوا عبادَ
اللهِ إخواناً, أحِبُّوا لإخوانِكم المؤمنين من الخير ما تُحِبُونَه لأنفسٍكم.
اللهم
أَلِّفْ بينَ قُلُوبِنا وأصلِحْ ذاتَ بينِنا واهدنا سُبُلَ السلام, ونَجَّنا من
الظُّلُماتِ إلى النُّور يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو
عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا،
واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم
آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل
باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع
رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين،
اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين،
اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر
جنودنا، اللهم انصر جنودنا، اللهم اربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وقوي عزائمهم واشف
مرضاهم وتقبل موتاهم في الشهداء، اللهم احفظ لبلادنا أمنها، واحفظها ممن يكيد لها،
وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين.
اللهم
أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت
لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء
أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله
إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً
ومتاعاً إلى حين، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً
غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك
الميت، اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ
به الحاضر والباد، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من
جميع ذنوبنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد
.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |