مِنْ كَمالِ الإيمانِ بالقدر عَدَمُ تَمَنِّي المَوْت
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى, وآمنوا بالله ورسولِه, واعلموا أَنَّ الإيمانَ بالقَدرِ خيرِهِ وشرِّه, أصلٌ عظيمٌ مِنْ أصولِ الإيمانِ الستةِ, التي لا يكونُ العبدُ مؤمِناً إلا بها, وبابٌ عظيمٌ مِن أبوابِ الثِقَةِ بالله, وشجاعةِ القلبِ, والسعادةِ والطُّمَأنينةِ, وراحةِ البالِ وانشِراحِ الصدرِ, وَتَحَمُّلِ المصائِبِ والأكْدار. ولذلكَ نهى النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ عَن كُلِّ ما يدُلُّ على ضَعْفِ الإيمانِ بهذا الركنِ العظيم. ومن ذلك قَوْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ, فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ). رواه البخاريُّ ومسلم.
والْمُرادُ بالضُّرِّ في الحديث: مصائِبُ الدنيا وهُمُومُها وأحزانُها. فلا يجوزُ للعبدِ أن يتمنَّى الموتَ بِسَبَبِ الفقرِ, أوِ المَرَضِ, أوِ العَدُوِّ, أو سوءِ الأحوالِ, أوِ المَشاقِّ, وغيرِ ذلكَ مِن مصائِبِ الدنيا.
والحِكْمَةُ في ذلكَ أنه مُنافٍ للصَّبرِ الذي أمَرَنا اللهُ بِه, وَوَعَدَنا عليهِ الأجرَ العَظيم, ولأنَ ذلكَ يَدُلُّ على الجَزَعِ وعدمِ الثباتِ والإحتسابِ على قضاءِ اللهِ تعالى. ويَدُلُّ أيضاً على العَجْزِ, والبُعْدِ عَنْ بَذْلِ الأسبابِ التي يُحَصِّلُ بِها العبدُ مَصالِحَهُ الدينيةِ والدُّنيَوِيَة.
وإذا كانَ العبدُ لا بُدَّ مُتَمَنِّياً: فلا يَجُوزُ له أنْ يَتَمنَّى الموتَ, وإنما يقولُ ما أرْشَدَ إليهِ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ في الحديث: ( اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ). وهذا في حالةِ ما إذا كانَ مُتَمَنِّياً لا محالَة. وإلا فالأكمَلُ له أنْ لا يَقولَ ذلك أيضاً. وإنَّما يُوَاجِهُ المتاعِبَ بالإيمانِ والقُوَّةِ والشَّجاعةِ والتَوَّكُّلِ على الله, وبَذْلِ أسبابِ السعادَة. مَعَ الصَّبْرِ وانتِظارِ الفَرَج. فإنَّ الصَّبْرَ مَعَ انتِظارِ الفَرَجِ عِبادَة.
ومِنَ الحِكَمِ في النَّهْيِ عَنْ تَمنِّي الموت, قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( ولا يَتمَنَّيَنَّ أحدُكمُ الموتَ: إمَّا مُحسِنًا فلعلَّهُ أن يزدادَ خَيرًا، وإمَّا مُسيئًا فلعلَّهُ أن يَسْتَعْتِب ). أي, إنْ كانَ مُحْسِناً, فإنَّ في إِمْهالِهِ فُرْصَةً في التَّزَوُّدِ مِن الأعمالِ الصالِحة. وإنْ كانَ مُسيئاً, فإنَّ في إمْهالِهِ فُرْصَةً لِيِسْتَعْتِب. والإسْتِعْتابُ: طَلَبُ إزالَةِ العِتاب. والمُرادُ: أنْ يَسْتَرْضِيَ اللهَ بالتَّوبَةِ والاسْتِغفارِ والإقبالِ على الطاعة.
فَكَأنَّهُ يَقُول: مَنْ كانَ مُحْسِنا فَلْيتْرُكْ تَمَنِّي المَوْتَ, وَلْيَسْتَمِرَّ على إِحسانِه, والازدِيادِ مِنْه. وَمَنْ كانَ مُسيئًا فَلْيَتْرُكْ تَمَنِّي المَوْتَ, ولْيُقْلِع عَنِ الإساءَةِ, لِئَلّا يَمُوتَ على إساءَتِهِ فَيكونُ على خَطَر.
وقَدْ كَرِهَ بَعْضُ العُلَماءِ الدُّعاءَ لِلغَيرِ بِطُولِ العُمُرِ مُطْلَقاً, وذلك بأن يقولَ: أطالَ اللهُ عُمُرَك. إلا إذا كانَ مُقَيَّداً. وذلكَ بأنْ يقول: أطالَ اللهُ عُمُرَكَ على طاعتِه, أو على الخيرِ, أو على الإيمان والتقوى. لأنه لا يَدْري, هلْ يكونُ طولُ العُمُرِ خيراً لهذا الشخصِ أو شراً.
وفي هذا الحديثِ: دليلٌ على أنهُ لا أحَدَ مِنَ الخَلْقِ يَعْلَمُ الغيبَ وأُمورَ المُسْتقبَل, مهما بَلَغَ في العلمِ والمَعرِفة. لِقولِه: ( أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ).
وفي هذا الحديث: دليلٌ على أنَّ الموتَ قَدْ يكونُ خيراً لِبعْضِ الناسِ مِن طولِ البقاء. كما أَنَّ طولَ البقاءِ قد يكونُ خيراً لِبَعْضِ الناس. وهذه أمورٌ اختَصَّ اللهُ وحدَهُ سُبحانَه بِعِلْمِها.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: إذا كانَ مُجَرَّدُ تَمَنِّي المَوْتِ مَنْهِيا عَنْه, فَكيفَ بمن يَتَسَبَّبُ في قَتْلِ نَفْسِه؟, وقد قالَ تعالى: ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ). وذلك عَنْ طريقِ إِيذائِها, وإلقائِها في مَواطِنِ الخَطَرِ والهَلاك. كما هيَّ حالُ المُفَحِّطين, أو مَنْ يَقودُ السيارةَ بِطَريقةٍ جُنونيةٍ, أو بِسُرْعةٍ زائِدة. وهكذا مَنْ يَتَعاطَى المُسْكِراتِ والمُخَدِّرات, أو يَتَعاطى ما يَضُرُّ صِحَّتَه كَشُرْبِ الدخان.
وإذا كان مُجَرَّدُ تَمَنِّي الموتِ مَنْهِيًّا عنه, فكيفَ بِمَن يُنْهي حياتَه بالانتِحارِ والعياذُ بالله؟!! وقد قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: ( مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّداً فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ). وقال أيضاً: ( وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
اللهم حَبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنْه في قلوبنا, وكره إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |