تفسير سورة القارعة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها المسلمون: اتقوا اللهَ تعالى, واعلَموا أَنَّ مَرَدَّكُم إلى الله, فَتَذَكَّروا يومَ البَعْثِ والنُّشور, يَومَ يَقومُ الناسُ لِرَب العالَمين, قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم, ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾.
الْقَارِعَةُ: ذَكَرَها اللهُ تعالى في أوَّلِ السُّورَةِ مُبْهَمَة, كَيْ تَجْعَلَ القارِئَ والمُسْتَمِعَ يَتَوَقَّفُ وَيَسْأَلُ نَفْسَه عن القارِعة, وَلِكَيْ يَشْعُرَ بِأنه ليسَ المقصودُ هو مَعْناها في اللُّغَةِ فَقَطْ, بَلْ هُناكَ مَعْنىً آخَرَ يَتْبَعُه, ولِذلِكَ أَعادَ اللهُ تَعالَى ذِكْرَها بِصيغَة الإستفهامِ الذي يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظيمُ والتَّهْويلُ فَقال: ﴿ مَا الْقَارِعَةُ ﴾, ثُم أَكَّدَ ذلِكَ فقال: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾. وهذه اللَّفْظَةُ إذا وَرَدَتْ في القرآن, فإن المَقصودَ بِها أَنَّهُ لا أَحَدَ يَدْرِي عَنْ ذَلِك إلا بِإخْبارِ اللهِ وإعْلامِه.
والْقَارِعَةُ, مَأخوذَةٌ مِنَ القَرْع, وَهُوَ الطَّرْقُ والضَّرْبُ بِشِدَّة, لأنها تَقْرَعُ الأسماعَ والقُلوبَ, وَتَجْعَلُ الناسَ حَيارَى, قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾ أي: حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِم, يكونونَ كالفراش المُنْتَشِرْ, والطُّيُورِ الصغيرةِ التي تَتَزَاحمُ عِنْدَ وُجُودِ النُّورِ أَوِ النارِ في الليل, وهي ضعيفة, تَكادُ تَمْشي بِدونِ هُدى، وتَتَراكَم ورُبَّما لِطَيْشِها تَقَعُ في النارِ وهي لا تدري، فَهُمْ يُشْبِهونَ الفراشَ في ضَعْفِهِ وَحَيْرَتِه وتَراكُمِه وَسَيْرِهِ إلى غَيْرِ هُدَى, ولا يَعْرِفُ أَيْنَ يَتَّجِه, مِنْ شِدَّةِ هَوْلِ ذلِكَ اليوم.
ثم قال تعالى: ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾, والعهن: الصوف. والمنفوش: أي, المُبَعْثَر. والمُرادُ: أنَّ هذه الجبالَ بَعْدَ أَنْ كانت صَلْبَةً قَوِيَّةً راسِخَة, تَكونُ مِثْلَ الصوفِ، سواءً نَفَشْتَهُ بِيَدِكَ أَوْ بِالمِنْدَاف, فإنه يكونُ خَفِيفاً يَتَطايَرُ مَعَ أدْنَى رِيح، وفي الآية الأُخْرى, ﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً ﴾. وَذَكَرَ اللهُ الصُّوفَ في أَضْعَفِ أَحْوالِه, عندما يكون مَنْفوشاً, لأن الصُّوفَ قد يكونُ مَضْغوطاً على بَعْضِهِ ومُتَماسِكاً.
ثم قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾, أي, مَنْ رَجَحَت حَسناتُه على سَيِّئاتِه, فَهوَ في حياةٍ طيِّبَةٍ مَرْضِيَّة, والمَعْنَى: أَنها عِيشَةٌ طَيِّبَةٌ لَيس فيها نَكَد، ولَيْسَ فيها صَخَبٌ، ولا نَصَب. كامِلَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْه، وهذا هو العَيْشُ الحَقِيقِي, فإنه لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخِرَة. لا يَمَسُّهُم فيها نَصَبٌ وما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجين، لا يَحْزَنون، ولا يَخافُون، في أَنْعَمِ عَيْشٍ، وَأَطْيَبِ بال، وأحْسَنِ حال.
ثم قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ أي, رَجَحَت كفّةُ السَّيِّئاتِ على كفَّةِ الحَسَنات, إِما لأنه مُسْلِمٌ كثيرُ الذنوب, قليلُ الطاعات. وَإِمَّا لأَنَّه كافِر, والكافِر لا تُقْبَلُ مِنْه حَسَنَةٌ أَصْلاً. وَمَنْ وَقَعَ في الشِّرْك, ذَهَبَتْ حَسَناتُه كُلُّها وإنْ كانت أمثالَ الجِبال.
ثُمّ قال: ﴿ فَأُمُّهُ هاوِيَة ﴾, وهذا يَشْمَلُ مَعْنَيَيْن, الأول: المَأْوَى والمَقْصَد, كما قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَن طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾. والمعنى الثاني: أَنَّها أُمُّ الدّماغ, أي أَنَّه يُلْقى في النارِ على أمِّ رأسِه.
ثم قال تعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾, وهذا مِنْ بابِ التَّفْخيمِ والتَّعْظيمِ لِهذِه الهاوِيَة. ما هي؟ أتدري ما هي؟ إنها شَيءٌ عظيم، إِنها نارٌ حامِيَة فِي غايَةِ ما يكونُ مِنَ الحُمُوّ. وُقَدْ فُضِّلَت على نارِ الدنيا بِتِسْعَةٍ وسِتينَ جُزءا. وَيَزْدادُ الأَمْرُ فَضاعَةً, عِنْدَما تَعْلَمُ بِأنَها نارٌ دائِمَةٌ خالِدة, وأهلُها خالِدونَ فيها, كُلَّما خَبَتْ زادَها اللهُ سَعٍرا. نسأل الله السلامة من عذاب النار.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن اللهَ تعالى أرْحَمُ مِن الوالِدَةِ بِوَلَدِها, حَيْثُ فَتَحَ لِعِبادِه مِنْ أبوابِ الخيرِ ما يَتَمَكّنونَ من بَذْلِ الأسبابِ التي تَرْجِحُ بِها حَسَناتُهُم على سيِّئَاتِهم, فَجَعَلَ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائةِ ضِعْفٍ, إلى أضعافٍ كثيرة. وأما السَّيِّئَةُ فجزاؤُها مِثْلُها. وكَذلِكَ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ حَسَنة وإِنْ لَمْ يَعْمَلْها, ومَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لمْ تُكْتَبْ, فَإِنْ تَرَكَها لِلّهِ كُتِبَتْ حَسَنَة. وكَذلِكَ شَرَعَ اللهُ لِعِبادِه أعمالاً قَلِيلَةً وحَسَناتُها كثيرة. وأخْبَرَ اللهُ تعالى أن الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السيِّئات. وأَعْجَبُ مِنْ هذا كُلِّه: أَنَّ مَنْ تابَ مِنْ ذُنُوبِه مَهْما عَظُمَتْ تَوْبةً نَصُوحاً صادِقَة, وعَمِلَ صالِحا, فإنَّ اللهَ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِ حسنات!!! فَما الذي تُريدُهُ بَعْدَ ذلِك يا عَبْدَ الله؟ وما هُوَ عُذْرُكَ إذا رَجَحتْ سَيِّئَاتُكَ على حَسَناتُك؟!! وصَدَقَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم إذْ قال: ( ولا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إلا هالِكْ ).
نَسْألُ الله أن يجعلنا ممن رجحَت حسناته على سيئاته, وأن يغفر لنا ذنوبنا, وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وأعنّا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنّا يا رب العالمين، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسّرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم، اللهم اربط على قلوبهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم عليك بالرافضة والبعث العلويين الذين آذوا إخواننا في بلاد الشام، اللهم عليك بهم, فإنهم لا يعجزونك. اللهم اشدد وطأتك عليهم واطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم وخالف بين كلمتهم وشتت شملهم وفرق جمعهم ومكّن المؤمنين منهم وسلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها يا رب العالمين، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، وبصّرهم بأعدائهم يا حيّ يا قيوم، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .