آيةُ المُنافِقِ والخوفُ مِنَ النفاق
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن لِصِحَّةِ الإيمانِ وكمالِه علامات, قدْ اعتَنَى أهْلُ العِلْمِ بِبَيانِها, لِأَهَمِّيَتِها, كَيْ يَتَحَلَّى المؤمنُ الناصِحُ لِنَفْسِه بها, ويَحْذَرَ مِن ضِدِّها.
ومن تِلْكَ العلامات: الخوفُ مِنَ النِّفاق, فإنه عَلامَةٌ مُهِمَّةٌ في هذا البابِ العظيم. فَمَنْ أَمِنَ مِنَ النِّفاقِ فَلْيُراجِعْ إيمانَه, قال ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: وبِحَسَبِ إيمانِ العبدِ ومَعْرِفَتِه يَكونُ خَوْفُهُ أَنْ يَكونَ مِنْ أَهْلِ هذِه الطّبَقَة، ولِهذا اشْتَدَّ خوفُ سادَةِ الأُمَّةِ وسابِقِيها على أنفُسِهم أنْ يكونوا مِنهم، فكان عمرُ رضي الله عنه يقول لحذيفة: " ناشدتُكَ الله هل سَمَّاني رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم مع القَوْم؟ -أي المنافقين- فيقول: لا ". وقال ابن أبي مُلَيْكَةَ: " أدركتُ ثلاثينَ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم, كُلّهُم يخافُ النفاقَ على نَفسِه ". وقال الحسنُ البَصْرِيُّ عنِ النفاق: " ما خافَهُ إلا مؤْمِن, وما أَمِنَهُ إلا مُنافِق ". وهذا كُلُّهُ على سبيلِ المُبالَغَةِ في التقوى والوَرَع. والسَّبَبُ في ذلك, أنهم كانوا أَبَرَّ الناسِ قُلوباً، وأَشَدَّهُمْ تعظيماً لِحُرُماتِ الله، وَأَبْعَدَهُمْ عَن انتِهاكِ حُدُودِه ، لكنَّ الواحدَ مِنْهُم لِكَمالِ عِلْمِهِ بِرَبِّه ، وخَوْفِه مِن مَقامِه، يَرى الذَّنْبَ الصغيرَ كبيراً. ويَتَعاظَمُ أنْ يَقولَ قولاً فَيُخالِفُه.
والنِّفاقُ نِفاقان: نِفاقٌ أكبر مُخْرِجٌ عن مِلَّةِ الإسلام, وهو إظهارُ الإيمان, وإِخفاءُ الكُفر. وَنفاقٌ أصغر, وهو النفاقُ العَمَلي, وهو الطريقُ إلى النفاقِ الأكبر, وإنْ كانَ لا يُخْرِجُ عنِ المِلَّة, لكنه وَسيلَةٌ إلى ذلك وهو من الكبائِر. وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ النفاقِ العملي في حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم, رواهما البخاري ومسلم. أحدهما: عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أرْبَعٌ منْ كُنَّ فيه كان مُنافِقاً خالِصا, ومَنْ كانت فيه خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانت فيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتى يَدَعَها: أذا حَدّثَ كَذّب, وَإذا عاهَدَ غَدَر, وإذا وَعَدَ أْخْلَف, وإذا خاصَمَ فَجَر ). والثاني عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( آيَةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَب, وإذ وَعَدَ أخلف وإذا اؤتُمِنَ خان ). فَمَنْ خافَ على نفسِهِ النفاقَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هذِهِ الخِصال, فإنها الطريقُ إلى النفاقِ الأكبر.
أوَّلُها: إذا حَدَّثَ كَذَب, والكذِبُ خَصْلَةٌ قبيحَة, خارِمَةٌ لِلْمُروءَةِ والرُجولَة, وَتَدُلُّ دَلالةً واضِحَة, على أنَّ صاحبَهُ لا يَحْتَرِمُ نَفْسَه, ولا يَحْتِرِم جُلَساءَه. وهو من الخصالِ التي تَهْدي إلى الفُجور, ومِنْ ثَمَّ إلى النار. والكَذِبُ كُلُّه مُحَرّمٌ ولو كان صاحِبُهُ مازِحاً. إلا فيما استثناه الدليل: كالكذبِ في الإصلاح بين المتخاصمَيْن.
الخَصْلَةُ الثانية: إذا عاهَدَ غَدَر, قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾. فالعُهُودُ مُحْتَرَمة, والوَفاءُ بها واجب حتى ولو كانت مع المشركين. وَهيَ مَعَ المسلمين مِنْ بابِ أَوْلى. وقال عليه الصلاة والسلام: ( لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يومَ القيامة يُعرَفُ بِه ). ومِنْ أعْظَمِ أنواعِ الغْدْرِ عندَ أهلِ العلم: نَقضُ بيعَةِ ولي الأمر المُسلِمِ كما أفتى بذلك عبدالله بنُ عمرَ رضيَ الله عنهما, وَغَيْرُهُ مِنْ سَلَفِ هذه الأُمَّة.
الخصلةُ الثالثة: إذا وعد أخلف, وهو على نوعين: الأول: أن يَعِد, وفي نِيَّتِه أَنْ لا يَفي بالوعد, وهذا أَشَدُّ النّوْعَيْن. والثاني: أن يَعِد, وفي نيَّتِه أن يَفِي بالوَعْد, ثُمَّ يُخْلِفُ وَعْدَه من غيرِ عُذْرٍ أو اعتِذار, وهذا مُحَرَّمٌ أيضاً. أما إذا تَخَلَّفَ لِعُذْرٍ, أو اعتَذَرَ مِمَّنْ واعَدَه, فلا شيءَ عليه. وهذا يدل على أن الوفاءَ بالوَعْدِ واجِب, وأنَّ الإلتِزامَ بالمَواعيد وانضباطَ صاحِبِها دليلٌ على إيمانِه, واحتِرامِه للآخَرِين. ويَدُلُّ أيضاً على عِنايَةِ الإسلامِ بِهذِه الخَصْلَة العَظيمَة, التي أَخَلَّ بها كثيرٌ من المسلمين اليوم, حتى أصبَحَت من الصفاتِ النادِرة. بَلْ ويَزدادُ الأمر سوءًا عندما يَصِفون الشخصَ المحافظَ على المواعيد, بِأنَّ مواعيدَه إنْجِليزِيَّة, أو أمريكِيَّة!!! وهي في حقيقةِ الأمرِ صِفَةٌ إِسْلامِيَّةٌ واجِبَة, ومن أعْظَمِ خِصالِ الإيمانِ التي شَدَّدَ الشارِعُ الحكيمُ في شأنِها.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عباد الله: الخصلة الرابعة, إذا خاصم فَجَر: والفجورُ في الخُصُومَة, هو المَيْلُ عَنِ الحَقِّ والكَذِبُ فيه, ويَشْمَلُ أمرين: الأول, إذا خاصَمَ عِند القاضي: وذلك بأن يدَّعِي ما ليس له, أو يَكْذِبَ في دعواه, أو يحتالَ بِالوسائل المُحَرّمَة كَيْ ينْتَصِرَ على خَصْمِه. والثاني إذا جادَلَ أو تَلاحَى مع أخيه فإنه لا يتحاشى الكلامَ المُحَرَّمَ, ولا يَدَّخِرُ كَلِمَةً سيِّئَةً إلا قالَها, من لَعْنٍ أو قَذْفٍ, أو اتِّهامٍ بِالباطِلْ.
الخَصْلَةُ الخامسة: إذا اؤتُمِنَ خان: والخيانةُ ضِدُّ الأمانة, وهي شامِلَةٌ لِجَميعِ التَّكاليفِ الشَّرْعِيَّة, ولذلك قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾. فَيَدْخُلُ في ذلك: القولُ على اللهِ بغير عِلْم, والكَذِبُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم, وَتَتَبُّعُ عوراتِ المسلمين, وأَذِيَّتُهم في نِسائهِم ومحارِمهِم, وإفشاءُ أسْرارِهِم, وَجَحْدُ حُقُوقِهِم وَوَدائِعِهِم, والإخْلالُ بِالعَمَلِ الوظيفي, وعدمُ النُّصْحِ في تنفيذِ عُقُودِ المشاريع. وكذلِكَ الفتوى وتَبْليغُ الدعوة.
نسألُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنا رِعايَةَ أماناتِنا وعُهُودِنا. وأنُ يُطَهِّرَ قٌلُوبَنا من النفاق, وأعمالَنا من الرِّياء, وأَلْسِنَتَنا مِنَ الكَذِب, وأَعْيُنَنا مِنَ الخِيانَة إنك تعلم خائنة ألأعين وما تخفي الصدور، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقنا تقواك, واجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين في كلِّ مكانٍ، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في كل مكان يا قوي يا عزيز، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم وفقهم بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حبّب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |