الجلوس للعزاء وولائم العزاء
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن الصبرَ مِن الإيمان مَنْزلتُه عَظيمة, فهو مِن أعظَمِ خِصالِ الإيمان, قال عليه الصلاة والسلام: ( وَما أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطاءً خيراً وَأَوسَعَ مِنَ الصبر ). وَيُرْوَى عن علي بنِ أبي طالب رضي الله عنه قال: " الصبرُ مِن الإيمان بِمنْزِلةِ الرأسِ مِن الجسد ", وثَوابُ الصبرِ عندَ اللهِ عظيم, إذا احتَسَبَ صاحِبُه الأجرَ والثواب, وآمَنَ بالقَدَرِ خيرِه وشرِّه.
وَإِنَّ مِنَ المَصائِبِ: أَنْ يُصابَ المؤمنُ بِفَقدِ قَريبٍ له, كَأحَدِ والدَيْه أو وَلَدِه, أو زوجِه. ولَمّا كان المؤمنُ للمؤمِنِ كالبنيانِ يَشُدُّ بعضُهُ بَعْضا, شَرَعَ الله التَّعْزِيَةَ تَسْلِيَةً للمُصابِ وتَقْوِيَةً له, وتَذْكيراً له: أَنَّ لِلَّهِ ما أَخَذَ وَلَهُ ما أَعْطَى وَكُلُ شَيءٍ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُسَمى, وَحَثّا له عَلَى الصبرِ والإِحْتِساب. ولَيسَ هُناكَ صِيغَةٌ مُعَيَّنةً لِلتَّعْزِيَةِ يَجِبُ لُزومُها, بَلْ كُلُّ كَلامٍ يُعِينُ على الصبرِ والإحتِسابِ, والثِّقَةِ بِالله, ويُسَلِّي المُصابَ, وَيَحْمِلُه على الرضا, فإنه من التَّعْزِيَة.
وَتَبْدأُ التَّعْزِيَةُ مِنْ حِينِ الوَفاة, وَلا يُشْتَرَطُ تَأخِيرُها إلى ما بَعْدَ الدَّفْن. وَليسَ هُناكَ دلِيلٌ على تَحدِيدِ مُدَّةِ العَزاءِ بِثلاثةِ أيام.
وَيُسنُّ صُنْعُ الطعامِ لِأهْلِ الْميّت وَقْتَ انْشِغالِهِم بِتَجْهيزِ مَيِّتِهِم, وانشِغالِ قُلوبِهم أيضاً, بِسببِ ذلك, لِما يَحْصُلُ لَهم مِنَ الحُزنِ وَأَلَمِ المُصيبة. لِحديث: ( اصنَعوا لآل جعفرَ طعاما فَقَدْ أتاهم ما يَشْغَلُهُم ). وَهُوَ خاصٌّ لِأهلِ الْميّت والمشغولينَ بِتَجهيزِه, وخاصٌّ أيضاً بِوقتِ انشغالِهم وتَجهيزهِم, وهذا يَحصُلُ في الوَلِيَمةِ الأولى, فلا يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ كَولائِمِ الأفراحِ والمناسباتِ التي يُدعى الناسُ إليها, كما هو الحاصِلُ اليوم. فَفِي الوقت الذي أصبحَ كثيرٌ مِنَ العُقلاءِ يَتَذَمَّرونَ مِنَ الإسرافِ في ولائِم الأفراحِ والمناسبات. جاءَ ما يُزاحِمُها وَيَزيدُ الطِّينَ بِلَّةً, مِنَ المُبالَغةِ حتى في الولائِم التي تُصْنَعُ أيامَ العَزاء.
ثم إِنَّ الجلوس لِلْعَزاءِ لَمْ يَكُنْ مَعْروفاً في زَمنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابِه, فَقَد كان يموتُ الْميّتُ لَهُم فَيَقومونَ بِما يَجِبُ عَليهِم في حَقِّهِ مِن تَغسيلٍ وتَكفينٍ وصلاةٍ, واتِّباعِ جَنازَتِه ودَفْنِه والدعاءِ له. ويَقْتَصرونَ على ذلك, ولا يَحْبِسونَ أَنْفُسَهُم وَيُعَطِّلونَ مَصالِحَهُم وَمَصالِحَ غَيْرِهِم, ويُشْغِلونَ غَيْرَهم بِأَمْرٍ لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ ورسُولُه. حَيْثُ إِنَّ في الجُلُوسِ لِلْعَزاءِ بِالطريقَةِ التي عَليها الناسُ اليومَ مَفاسِد:
أولها: أَنَّه مُخالِفٌ لِمَا كانَ عَلَيهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ فِي التَّعامُلِ مَعَ مِثْلِ هذِه الظُّروفِ والأَحوال.
الثانية: الإِثْقالُ على أَهْلِ الْميّت: فَإِنَّ أَهْلَ الْميّت وَإِنْ جَلَسُوا فَإِنَّ في ذلكَ إِثْقالاً عليهِم وَعَلَى مَنْ يَقُومُونَ بِاسْتِقْبالِهِم. وَإِرْهاقاً لَهُم بِسَبَبِ كَثْرَةِ المُصافَحَةِ والمُعانَقَةِ والقِيامِ والجُلُوسِ. وإِشْغالاً لِأهْلِ البيتِ وَأَوْلادِهِمُ الذين أُصِيبُوا بِهَمَّيْن: هَمِّ المُصيبَة, وَهَمِّ خِدْمَةِ المُجْتَمِعينَ لِلْعَزاءِ مِنْ إِحضارِ الماءِ والشاي والقهوةِ وغيرِ ذلكَ مِمَّا يَحتاجُه المُجْتَمِعونَ طِيلَةَ أيامِ العَزاء.
الثالثة: التكاليفُ الباهِظَةُ والإسراف. وكذلك التَّنافُسُ لَدَى المُوسِرِين مِنْ أَجْلِ الوَليمَة, والذي يُفْضِي إلى التَّباهِي وزِيادَةِ أَيامِ الجُلُوس, حتى إِنه وَصَلَ إلى أربعةِ أيام وخمسةِ أيام, بَلْ وفي بعضِ مُدُنِ المملكة وَصَلَ إلى أكثَرَ مِن ذلك.
الرابعة: قَدْ لا يَجِدُ أَهْلُ الْميّت كِفايَةً في صُنْعِ الطعام, أوْ لا يَجِدون مَن يَتَبَرَّعُ بِصُنْعةِ الطَّعام, فَيَضْطَرُّونَ إلى أنْ يقوموا هُمْ بِأنْفُسِهِم بِذلك, وهذا أمر لا يجوز, أَنْ يَتَوَلَّى أهْلُ الْميّت صُنْعَ الطعام.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
المَفْسَدَةُ الخامسةُ التي تَحْصُلُ في الإجتماعِ أَيامَ العَزاء: تَعْطيلُ المَصالِح. فإنَّ الواجِبَ على المؤمنين أن يكونوا أقوياءَ في إيمانِهم لا تُخَدِّرُهُم المَصائِب, ولا تُعَطِّلُ أعمالَهُم. بَل ينبغي أن يكونَ عِنْدَهم مِنَ اليقينِ ما تَهُونُ بِسَبَبِهِ مُصائِبُ الدنيا, بِحَيْثُ لا يَنْشَغِلونَ عَن تَحصيلِ ما يَنْفَعُهُم, أو تَتَعطَّلُ عَجَلَةُ الحياةِ بالنسبةِ لَهُم لأدنى مُصيبة, فَما بَالُكُم حِينَما يَتَعَدى الأمْرُ إلى بَقيَّةِ الأقارِبِ والجِيران والزُّملاء رِجالاً ونساءً, فَيَنْحَبِسونَ عَنْ مَصالِحِهِم, وقد يكونُ بَعْضُهُم مِمَّن لا يَسْتَغْني المُجتمَعُ عَنْ جُهودِه وتَوَاجُدِه. فَتَتَعَطَّلُ مَصالِحُ المسلمينَ الخاصَّةِ والعامَّة, بِسَبَبِ مُبَرِّراتٍ وَحُجَجٍ وَمَصالِحَ ضَئِيلَة, لا تَزِنُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أَمامَ المَصالِحِ التي تَتَعَطَّلُ بِسَبَبِ الجُلُوسِ لِلْعَزاء. مَعَ ما يَحْصُلُ مِنَ الإِحراجِ لَدَى كَثيرٍ مِنَ الأقارب, فَإنَّهُم قَدْ يُلْغُونَ أعْمالاً وَمَواعِيداً قَدْ أَعَدُّوا لَها مِنْ ذِي قَبْل. كُلُّ ذلِكَ مُجامَلَةً أو حَياءً أو خَوْفاً مِنْ ذَمِّ الناس. وَيُضافُ إِلى ذَلِكَ ما يَحْصُلُ مِنْ الإِحْراجِ لِذَوِي الدَّخْلِ المَحْدودِ مِمَّنْ يَثْقُلُ عَلَيهِم تَكالِيفُ الوَلِيمَة لَكِنَّهُم يَلْجَؤونَ إليها حَياءً ومُجامَلَةً. بَلْ إِنَّ بَعْضَهُم يَضْطَرُّ إلى أَنْ يَسْتَدِينَ بِسَبَبِ ذلك. وَأَنْتُم تَرَونَ اليومَ غَلاءَ الذَّبائِحِ وتَكالِيفِ المَعيشة. وإذا كانَ الشخصُ لابُد فاعِلاً وحَريصاً على الجُلوسِ لاستقبال المُعَزِّين, فَلُيَقْتَصِرْ عَلَى الوقتِ الذي اعْتادَ أنْ يَسْتَقْبِلَ فيه الزُّوَّار, فَيَجْلِس مَثَلاً مِنْ بَعْدِ صَلاةِ العَصرِ إلى أَذانِ المغرب, ثُم بَعدَ ذلك يَفُضُّ مَجْلِسَه وَلا يَحْبِسْ نَفْسَهُ وَيُشْغِلْ أَقارِبَهُ وَأهْلَ بَيْتِه بَقِيَّةَ الأوقات, لِأنَّ التَّعْزِيَةَ سُنَّة ولَيْسَتْ واجِبة, فَتَكونُ زِيارَةُ الناسِ له خَفيفةً ليس مِنْ وَرائِها كَلَفَةٌ ولا عَناءٌ وَلا تَجَمُّعٌ, مَعَ العِلْم أَنَّ أَمْرَ التَّعْزِيةِ أوْسَع, لأنه قَدْ يَلْقاهُ المُعَزِّي في المسجدِ أَوْ عَبْرَ اتِّصالٍ هاتِفِي وما شابَهَ ذلِك.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا, وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبِنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجّهم من الظلمات إلى النور يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم أعذهم من شر الفتنة والفرقة والاختلاف يا حي يا قيوم، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نُزُلَهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html |