تَفْسِيرُ
سُورَةِ التكاثُرِ والتَّنْبِيهُ عَلَى وُجُوبِ احْتِرامِ النِّعْمَة
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى، وَتَدَبَّرُوا
كِتابَ اللهِ، واعْلَمُوا أَنَّه شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، قال تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ
لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ ﴾.
في هذِه السُّورَةِ القَصِيرةِ العَظِيمَةِ الجامِعَةِ:
تَوْبِيخٌ مِن اللهِ لِمَنْ أَشْغَلَتْهُمْ الدُّنْيا عَن الأَمْرِ الذي خُلِقُوا
مِنْ أَجْلِهِ. ولم يَذكُرِ اللهُ الْمُتَكاثَرَ بِه، لِيَشْمَلَ كُلَ ما
يَتَفاخَرُ بِهِ ويَتَكَاثَرُ بِهِ المُتُكاثِرُونَ، مِن الأَمْوالِ، والأَوْلادِ
والْمَناصِبِ، والقُصُورِ والْمَراكِبِ، وَغَيْرِ ذلك مِنْ أَمُورِ الدنيا,
فَيَنْشَغِلُونَ بِها عَنْ الآخِرَةِ. لِأَنَّ الدنيا مَتاعٌ زائِلٌ. بِخِلافِ
العَمَلِ الصالِحِ فَإِنَّه الباقِي.
﴿ حَتَّى
زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ أَيْ: حَتَّى مُتُّمْ، ودُفِنْتُم في المَقابِرِ.
أيْ: اسْتَمَرُّوا فِي التَّكاثُرِ الذي ألْهاهُمْ عَنْ الآخِرَةِ، حَتَّى
وُضِعُوا فِي قُبُورهِم. فالدنيا مَتاعٌ زائِلٌ. والْمَقابِرُ لا يَأْتُونَها إلا
زِيارَةً. لِيَعْلَمَ العِبادُ أَنَّ هُناكَ بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ
كُلَّ زائِرٍ يَرْجِعُ، والْمَيِّتُ إذا وُضَعَ فِي قَبْرِهِ فَهُوَ زائِرٌ، لأنَّ
لَه مَثْوًى أخِيرًا، وَهُوَ الجنةُ أو النارُ. فَإنَّ القَبْرَ لَيْسَ مَثْوًى
أَخِيرًا، بَلْ بَعْدَه بَعْثٌ وَأَهْوالٌ يَشِيبُ لَها رَأْسُ الصَّغِيرِ
وَتَضَعُ الحامِلُ ما فِي بَطْنِها، وَحِسابٌ، وآخِرُ ذلك: فَرِيقٌ في الجنةِ،
وفَريقٌ في السَّعِيرِ.
ثُمَّ
بَعْدَ ذلكَ تَوَعَّدَ اللهُ مَنْ انْشَغَلَ بِالدنيا عَن الآخِرَةِ فقالَ: ﴿ كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ ﴾، وهَذا تَهْدِيدٌ، مِن اللهِ، أَكَّدَه بِقَوْلِه: ﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾.
ثُمَّ
قال جَلَّ وَعَلا: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ ﴾، أيْ: لَوْ أَنَّكُم تَعْلَمُونَ ما أَمَامَكُمْ عِلْمًا
يَقِينِيًّا جازِمًا، لَمَا أَلْهاكُمْ التكاثُرُ عَمَّا أَمَامَكُم.
ثُمَّ قال جَلَّ وَعَلا: ﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾، أي: لَتُبْعَثُنَّ يومَ
القِيامَةِ، وَتَرَوُنَّ الجحيمَ، وهي النارُ، التي أَعَدَّها اللهُ لِلكافِرِين.
ثُمَّ
قال جَلَّ وَعَلَا بَعْدَ ذلك: ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾،
أَيْ: لَتَرَوُنَّ النارَ بِأَعْيُنِكُم تُشاهِدُونَها بِأَبْصارِكُمْ يَقِينًا لا
يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ أَدْنَى شَكٌّ، لِأَنَّ الخَبَرَ لا يُدْرِكُه الإنسانُ
عَلَى وَجْهِهِ كامِلًا. وَأَمَّا إذا رَأَى بِعَيْنِهِ فَإِنَّه يُوقِنُ يَقِينًا
جازِمًا، لِأَنَّ المُخْبَرَ لَيْسَ كالْمُعايِنِ أَبَدًا، وَهذا فِي جِمِيعِ
الخَلْقِ، سَيَرَوْنَ النارَ يَوْمَ القيامةِ بِأَعْيُنِهِم، كما قال الله تعالى: ﴿ وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى﴾. لَكِنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ والإيمانِ
يَصْرِفُهُمْ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَنْها، وَأَهْلَ النارِ يَأْمُرُ اللهُ جَلَّ
وَعَلا بِهِم فَيُلْقَوْن فيها.
ثُمَّ خَتَمَ اللهُ
السُّورَةَ بقَوْلِه: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
﴾. وفِي هذِهِ الآيَةِ تَأْكِيدٌ مِن اللهِ، بِأَنَّ العِبادَ
سَيُسْأَلُونَ عَنْ النَّعِيمِ الذي هُمْ فِيهِ، فَإِنَّ في أَوَّلِ السُّورَةِ
قال: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾. والذي
يُلْهِي الإنسانَ ويَتَكاثَرُ بِهِ هُوَ النَّعِيمُ، فَأَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا
أَنَّ العِبَادَ سَيُسْأَلُونَ عَنْ هذا النَّعِيمِ، وهذا السُّؤَالُ مِن اللهِ
لِلعِبادِ كُلِّهِم، بِماذَا قابَلُوا هذا النَّعِيمَ؟ هَلْ اعْتَرَفُوا أَنَّه
مِن اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ لَه؟ وَهَلْ قامُوا بِشُكْرِهِ، وَأَدَّوْا حَقَّ
اللهِ فِيه، وَلَمْ يَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى مَعاصِيهِ. وهَلْ احْتَرَمُوا نِعَمَ
اللهِ وَقَدَّرُوها؟ وَهَلْ صانُوها وَلَمْ يُبَذِّرُوا وَلَمْ يُسْرِفُوا؟
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ اللهِ:
إِنَّ مِمَّا وَرَدَ في احْتِرامِ نِعْمَةِ اللهِ: احْتِرامَ الطَّعامِ الذي هُوَ
غِذاءُ البَدَنِ، فَقَدْ رَوى مُسْلِمٌ عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ رضي اللهُ عنه قال: (
كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ إِذا
أَكَلَ طَعامًا، لَعِقَ أَصابِعَه الثَّلاثَ وقال: " إذا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْها
الأَذَى ولْيَأْكُلْها، ولا يَدَعْها لِلشَّيْطانِ "، وأَمَرَنا أَنْ
نَسْلُتَ القَصْعَةَ، وقال: " فإِنَّكُمْ لا
تَدْرُونَ في أَيِّ طَعامِكُمْ البَرَكَةُ " ). أَيْ نَمْسَحُ
بِأَيْدِينا بَقِيَّةَ الطعامِ الذي في الإِناءِ ونَلْعَقُها. فَيا لَهُ مِنْ
تَواضُعٍ وكَسْرٍ لِلنَّفْسِ، واحْتِرامٍ لِلنِّعْمَةِ، حُرِمَهُ أَكْثَرُ الناسِ
اليَّوْمَ، إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ.
فَلَوْ قارَنَ المُسْلِمُ بَيْنَ ما وَرَدَ في هذا الحديثِ، وحالِنا
اليَوْمَ، غَنِيِّنا وفَقِيرِنا مَعَ الأَسَفِ، لَرَأَى العَجَبَ.
فإنَّ بَعْضَ الناسِ يَظُنُّ أَنَّ إِهْدارَ الطَّعامِ خاصٌّ بِما يُلْقَى مِن
النِّعَمِ بَعْدَ مُناسَباتِ الأَفْراحِ وغَيْرِها، ولا شَكَّ أَنَّ هذا العَمَلَ
جَريمَةٌ كَبيرَةٌ، ولكنه يَنْسَى ما نُهْدِرُهُ مِن الأَطْعِمَةِ في بُيُوتِنا
واسْتِراحاتِنا، وما يُلْقَى مِنْها دُونَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ
دابَّةٌ. وَكَذلكَ لَوْ رأَى حالَ كَثيرٍ مِن العَوائِلِ والشَّبابِ بَعْدَ
فَراغِهِم مِن نُزْهَتِهِمْ أَوْ رِحْلَتِهِم في البَرِّ، وَما يَتْرُكُونَهَ مِنْ
مُخَلَّفاتِ الطَّعامِ، بِطَريقَةٍ لا يَسْتَفِيدُ مِنْها إنْسانٌ أَوْ دابَّةٍ، فَلاهُمْ
الذينَ حَمَلُوها مَعَهُمْ لِيأْكُلُوها في وَقْتٍ آخَرَ، أَوْ يَتَصَدَّقُوا بِها
عَلى إِنْسانٍ، ولاهُمْ الذينَ أَبْعَدُوها عَنْ مَجالِسِ الناسِ الذين يأْتُونَ
بَعْدَهُمْ، واَفْرَغُوها مِنْ أَكْياسِها أَوْ أَوْعِيتِها كَيْ تَسْتَفِيدَ
مِنْها الدَّوابُّ، وما أَكْثَرَ المَواشِي التي تَمُوتُ بِسَبَبِ أَكْلِها
لِلأَكْياسِ البَلاسْتِيكِيَّةِ، فَيَكُونُوا بِذلكَ باءُوا بِالإِثْمِ،
لأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا في مَوْتِها. وَيَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّ إزالَةَ الْمُخَلَّفاتِ
بَعْدَ الفَرَاغِ مِن النُّزْهَةِ، سَواءً كانَ مِن الطَّعامِ أَوْ غَيْرِهِ، واجِبٌ
عَلى الْمُتَنَزِّهِينَ، لأَنَّهْ مِن إِماطَةِ الأَذَى عن إِخْوانِهِمْ الذين
يَأْتُونَ بَعْدَهُمْ.
فَيَا عِبادَ الله:
اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، واحْذَرُوا مِن اللَّهْوِ فِي هذِهِ الدُّنْيا، ونِسْيانِ
الأَمْرِ الذي خُلِقْتُمِ مِنْ أَجْلِهِ، واحْتَرِمُوا نِعْمَةَ اللهِ واشْكُرُوها
ولا تَكْفُرُوها، فإِنَّكُمْ سَتُسْأَلُونَ عَنْها.
اللهم لا تجعل الدنيا
أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وأعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، اللهم خلصنا من
حقوقِ خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين، وألحقنا في الصالحين يا
رب العالمين، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي
فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير
والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع
كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً
على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم أعذهم من شر
الفتنة والفرقة والاختلاف يا حي يا قيوم، اللهم احفظ لبلادنا دينها وعقيدتها
وأمنها وعزتها وسيادتها واستقرارها واحم حدودها وانصر جنودها يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم وفق حكامنا وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين يا حي يا
قيوم، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة
وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم
نُزُلَهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب
الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، ﴿
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|